من "الوكلاء الأجانب" إلى "الإرهابيين".. كيف تُستَهدف منظمات المجتمع المدني حول العالم؟

من "الوكلاء الأجانب" إلى "الإرهابيين".. كيف تُستَهدف منظمات المجتمع المدني حول العالم؟
احتجاجات لنشطاء المجتمع المدني

يشكّل المجتمع المدني في أي دولة العمود الفقري للديمقراطية، فهو يوفّر منصات للمشاركة الشعبية، ويعزز الشفافية والمساءلة، ويخلق مساحات للحوار والتضامن، غير أن منظمات حقوق الإنسان وخبراء الأمم المتحدة حذّروا مؤخراً من تزايد استهداف منظمات المجتمع المدني والنشطاء في مختلف أنحاء العالم، في سياق ما وصفوه بموجة متصاعدة من الاعتقالات التعسفية، والملاحقات القضائية، وإغلاق المؤسسات تحت ذريعة "الأمن القومي" أو "مكافحة النفوذ الأجنبي".

تعود جذور هذه الأزمة إلى صعود تيارات سياسية سلطوية خلال العقدين الأخيرين، مستفيدة من التوترات الأمنية والاقتصادية لتبرير التضييق على الحريات، وتلجأ بعض الحكومات إلى سن قوانين تُجرّم التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية، أو تُصنّفها وكلاء لقوى خارجية، كما حدث في جورجيا مع قانون "وكلاء الأجانب"، وظهرت قوانين مشابهة في روسيا منذ عام 2012، وجرى توسيعها لتشمل وسائل إعلام مستقلة ومنظمات حقوقية، وفي تركيا وبيلاروسيا، اتخذت الحكومات تدابير مشابهة أفضت إلى محاكمات مطولة للنشطاء وإغلاق العديد من المنظمات.

أصوات مقموعة ومجتمعات هشة

لا يتوقف استهداف المجتمع المدني عند حدود القيود القانونية، بل يترك أثراً إنسانياً مباشراً، فقد تعرض آلاف النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان للاعتقال دون محاكمة عادلة، أو صدرت بحقهم أحكام قاسية، ووثقت تقارير حقوقية دولية كيف اضطرت منظمات عديدة إلى إغلاق مكاتبها أو العمل سراً بسبب فقدان التمويل أو حظر النشاط، وهذا الواقع أدى إلى فراغ في خدمات إنسانية أساسية، خصوصاً في مناطق الأزمات، حيث كانت هذه المنظمات توفر دعماً للفئات الأكثر ضعفاً مثل النساء والأطفال واللاجئين، وبحسب تقديرات منظمة العفو الدولية، فإن ما لا يقل عن 70 دولة فرضت منذ عام 2015 قيوداً متزايدة على حرية التجمع السلمي والعمل الأهلي.

في بيان مشترك صدر مؤخراً، وفق شبكة "jurist" شدّد خبراء الأمم المتحدة على أن حرية التجمع ليست تهديداً للأمن القومي، بل هي أحد الركائز الأساسية للديمقراطية الشاملة، وأكدوا أن وصم النشطاء والمحتجين بصفات مثل: "أعداء"، أو "خونة"، أو "إرهابيين" يهدف إلى نزع الشرعية عن عملهم المشروع، ويهدد التماسك الاجتماعي.

 البيان شدّد أيضاً على أن هذه الحقوق منصوص عليها في المادة 21 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يحظر أي قيود غير ضرورية أو غير متناسبة على حرية التجمع السلمي.

ردود أفعال دولية وحقوقية

قوبلت سياسات تقييد المجتمع المدني بانتقادات حادة من منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان" التي اعتبرت أن التشريعات الجديدة ليست سوى غطاء لتكميم الأفواه. ففي حالة جورجيا، وصفت منظمات أوروبية القانون الجديد بأنه خطوة إلى الوراء في مسار الديمقراطية، في حين اعتبرته المفوضية الأوروبية معوقاً أمام طموحات البلاد في الاندماج بالاتحاد الأوروبي. وفي روسيا، أدانت الأمم المتحدة والمجلس الأوروبي القيود المفروضة على منظمات المجتمع المدني باعتبارها انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي.

شهدت تسعينيات القرن الماضي اتساعاً غير مسبوق في الفضاء المدني مع صعود الديمقراطية الليبرالية وتوسع نشاط المنظمات الدولية والمحلية، لكن مع مطلع الألفية الجديدة، بدأت موجة من الردة الديمقراطية، خاصة في بلدان تعاني من نزاعات داخلية أو ضغوط اقتصادية، واستغلت الحكومات الهجمات الإرهابية والأزمات الأمنية لتبرير تقليص الحريات، وهو ما أسهم في تحول تدريجي من مجتمع مدني مزدهر إلى مجال محاصر بالقوانين والقيود.

ينص ميثاق الأمم المتحدة والعهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على التزام الدول بضمان حرية تكوين الجمعيات والتجمع السلمي، كما يعد مجلس حقوق الإنسان استهداف المجتمع المدني تهديداً مباشراً للسلم والأمن الدوليين، إذ يؤدي إلى إضعاف المشاركة الشعبية وزيادة الانقسامات. ورغم ذلك، فما يزال الإفلات من العقاب سائداً، حيث نادراً ما تواجه الحكومات عواقب مباشرة لتضييقها على المجتمع المدني.

نحو حماية الفضاء المدني

يشكّل استهداف المجتمع المدني أزمة حقوقية عالمية، تتجاوز حدود الدول لتلامس جوهر الديمقراطية والكرامة الإنسانية، ولا يقتصر البيان الأممي الأخير على الإدانة، بل يمثل دعوة ملحّة لإعادة الاعتبار لحرية التجمع والعمل الأهلي باعتبارها ضمانة أساسية لمنع الاستبداد وتعزيز التضامن الاجتماعي، وإذا لم تتحرك الدول لوقف هذه السياسات، فإن الخسائر لن تقتصر على النشطاء والمنظمات، بل ستمتد إلى المجتمعات بأسرها، مهددة الاستقرار والسلام الدوليين.

بحسب بيانات موقع CIVICUS Monitor للتحديثات العالمية لعام 2024، يعيش نحو 72.4 في المئة من سكان العالم تحت أنظمة تُقيّد أو تغلق فضاء المجتمع المدني بصورة شديدة، بما يشمل اعتقال الناشطين وسجنهم لمجرّد التعبير السلمي أو الانتقاد، وثَمَّ أكثر من115 دولة من بين نحو 198 بلداً ومقاطعة يُصنّف فيها المجتمع المدني على أنه مقيد أو مقمع، ما يعني أن مئات آلاف النشطاء تتعرض حياتهم للخطر بسبب عملهم، وفي روسيا، على سبيل المثال، تم تصنيف نحو187 منظمة ومن أفراد منظمات غير مرغوب فيها أو وكلاء أجانب، بسبب قوانين التمويل الأجنبي التي تقيّد النشاط المستقل.

في إثيوبيا، أصدرت السلطات قراراً بإغلاق ما لا يقل عن 1,504 منظمة مجتمع مدني في 2024، بدعوى عدم الامتثال لمتطلبات التقارير السنوية، وهو ما وصفته منظمات محلية ودولية بأنه جزء من حملة أوسع لتقليص فضاء النقد والمساءلة. 

أما في بيلاروس، فالإحصائيات تشير إلى أن السلطات قامت حتى فبراير 2025 بإلزام ما لا يقل عن 1,188 منظمة غير حكومية بالقوة على تصفية وضعها، في حين أنّ 717 منظمة أخرى اختارت حلاً ذاتياً للتصفية الإدارية أو الهيكلية نتيجة الضغوط القانونية والتنظيمية. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية