تحت ستار الأمن القومي.. تقارير تفيد باعتقال أطفال ينتمون للأقليات في إيران
تحت ستار الأمن القومي.. تقارير تفيد باعتقال أطفال ينتمون للأقليات في إيران
في تطور خطير يعكس عمق الأزمة الحقوقية في إيران، رصدت منظمات حقوقية محلية ودولية موجة جديدة من الاعتقالات التي تستهدف أطفالاً ينتمون إلى الأقليات الكردية والبلوشية، فمنذ مطلع سبتمبر الجاري وحتى منتصفه، اعتقلت قوات الأمن الإيرانية ما لا يقل عن 11 طفلاً، بعضهم في سن الخامسة عشرة، دون تقديم أوامر قضائية أو مبررات قانونية، ثم أُخفي أثرهم قسراً ومنعوا من التواصل مع ذويهم.
تؤكد هذه الاعتقالات أن استهداف الأطفال لم يعد استثناءً، بل تحول إلى سياسة ممنهجة ضمن استراتيجية القمع التي تنتهجها سلطات الجمهورية الإيرانية، خصوصاً في المناطق التي تشهد توترات سياسية أو احتجاجات شعبية وفق تقرير نشره مركز حقوق الإنسان في إيران.
معظم الاعتقالات جرت في ساعات الفجر عبر مداهمات نفذتها عناصر وزارة الاستخبارات إلى منازل الأطفال، خصوصاً في مدينة كامياران بمحافظة كردستان، حيث احتُجز تسعة أطفال تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عاماً خلال أسبوعين فقط، وفي سيستان وبلوشستان، نفذت قوات الأمن اعتقالات مماثلة بحق قاصرين في ظروف عنيفة وغامضة، وسط حالة استنفار أمني متصاعد على خلفية الذكرى السنوية لمجزرة زاهدان عام 2022 التي راح ضحيتها أكثر من مئة مدني خلال احتجاجات "المرأة، الحياة، الحرية".
العائلات، وفق شهادات حصل عليها مركز حقوق الإنسان في إيران، لا تعرف أماكن احتجاز أبنائها ولا الجهة المسؤولة عن اعتقالهم، ويقول أحد المصادر: "الأمر الأكثر قلقاً هو أن الأهالي عاجزون حتى عن معرفة من يسألون أو أين يبحثون".
أسباب خلف الستار
تربط منظمات حقوقية هذه الاعتقالات بما تسميه "سياسة الردع عبر التخويف"، إذ تستهدف السلطات الفئات الأكثر هشاشة لردع المجتمعات الكردية والبلوشية عن الانخراط في أي شكل من أشكال المعارضة أو الاحتجاج، كما ترتبط الممارسات الأخيرة بالاستعدادات الأمنية تحسباً لموجات غضب شعبي في ذكرى أحداث دامية سابقة.
كذلك، يشير مراقبون إلى أن الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد، وتزايد الانتقادات الداخلية والخارجية للسلطات الإيرانية، يجعلان الأقليات هدفاً سهلاً للضربات الأمنية، خصوصاً في المناطق الحدودية التي تُتهم غالباً بدعم جماعات مسلحة.
ووصفت بهار غندهاري، مديرة قسم الدفاع عن الحقوق في مركز حقوق الإنسان في إيران، هذه الاعتقالات بأنها "اختطاف مقنن"، مؤكدة أنها تمثل حالات اختفاء قسري وفق القانون الدولي، ويجب أن تخضع لمساءلة دولية عاجلة.
من جهتها، طالبت منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش بالكشف الفوري عن مصير المعتقلين والإفراج غير المشروط عنهم، كما حثت المفوضية السامية لحقوق الإنسان ومجلس حقوق الإنسان الأممي على فتح تحقيق عاجل في القضية.
أما منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) فقد عبّرت عن "قلق بالغ" إزاء تقارير الاحتجاز القسري للقاصرين في إيران، مؤكدة أن هذه الممارسات تمثل انتهاكاً صارخاً لاتفاقية حقوق الطفل التي تلزم الدول الأطراف بضمان حماية الأطفال من الاعتقال التعسفي والتعذيب والإخفاء القسري.
انتهاك للمعاهدات الدولية
تُعد إيران طرفاً في اتفاقية حقوق الطفل منذ عام 1994، لكنها تتحفظ على أي بند يتعارض مع الشريعة الإسلامية، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام الالتفاف على التزاماتها الدولية، ومع ذلك، فإن ما يجري حالياً يمثل انتهاكاً صريحاً لعدة نصوص قانونية دولية أساسية، منها: اتفاقية حقوق الطفل التي تحظر الاعتقال التعسفي والتعذيب والإعدام بحق القاصرين، والاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يحظر التمييز والاعتقال غير القانوني، واتفاقية مناهضة التعذيب التي تحظر المعاملة القاسية واللاإنسانية.
إن استهداف الأطفال على أساس الهوية العرقية يجعل من هذه الممارسات شكلاً من أشكال الاضطهاد الجماعي، ما يرقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية بحسب بعض خبراء القانون الدولي.
إلى جانب الانتهاك القانوني، تكشف هذه الاعتقالات مأساة إنسانية قاسية، فكثير من الأطفال المعتقلين يعاني أمراضاً مزمنة مثل السكري أو أمراض الجهاز التنفسي، ما يعرض حياتهم لخطر مضاعف في حال حرمانهم من الرعاية الطبية، وفي ظل غياب الشفافية تتضاعف معاناة الأسر التي تجهل مصير أبنائها وتعيش حالة مستمرة من الخوف والقلق.
الأهالي، وفق شهادات منظمات حقوقية، يواجهون أيضاً تهديدات مباشرة من السلطات في حال حاولوا متابعة مصير أبنائهم أو إثارة القضية إعلامياً، ما يزيد من إحكام دائرة العزلة والصمت المفروض عليهم.
عقود من التمييز
استهداف الأقليات ليس جديداً في إيران. فالأكراد والبلوش والأهوازيون يتعرضون منذ عقود لسياسات تمييز ممنهج في التوظيف والتعليم والخدمات، إلى جانب قيود مشددة على حرية التعبير والممارسة الثقافية والدينية.
خلال احتجاجات "المرأة، الحياة، الحرية" عام 2022، كانت المناطق الكردية والبلوشية مسرحاً لأعنف حملات القمع، حيث وثقت الأمم المتحدة اعتقال مئات القاصرين، تعرض كثير منهم للتعذيب والانتهاكات الجنسية، كما تشير تقارير متواترة إلى أن إيران تحتل المرتبة الأولى عالمياً في إعدام القاصرين، في انتهاك صارخ للمعايير الدولية.
ويحذر خبراء من أن استمرار هذه السياسات سيؤدي إلى خلق جيل يعيش في ظل الخوف والصدمة النفسية، ما يفاقم الأزمات الاجتماعية في البلاد، كما أن التمييز الممنهج ضد الأقليات يعمق الشعور بالاغتراب ويهدد وحدة المجتمع الإيراني على المدى البعيد.
أما على الصعيد الدولي، فإن استمرار هذه الانتهاكات قد يدفع إلى فرض مزيد من العقوبات المستهدفة على المسؤولين الأمنيين والقضائيين الإيرانيين، فضلاً عن إمكانية فتح ملفات قضائية دولية ضد طهران.
المطلوب دولياً
يطالب مركز حقوق الإنسان في إيران، ومعه منظمات حقوقية أخرى، المجتمع الدولي باتخاذ خطوات عملية، تشمل: إدانة علنية لاعتقال الأطفال واختفائهم قسراً، و فرض عقوبات محددة على المتورطين في هذه الانتهاكات، وتدخلاً عاجلً من اليونيسف للضغط على السلطات الإيرانية، وتفعيل آليات الأمم المتحدة الخاصة، مثل بعثة التحقيق المعنية بإيران، لفتح ملف شامل حول انتهاكات حقوق الأطفال والأقليات.
تكشف موجة الاعتقالات الأخيرة في كردستان وسيستان وبلوشستان عن واقع مظلم يواجه الأطفال في إيران، حيث يتحولون إلى أدوات سياسية في معركة قمع لا تميز بين بالغ وقاصر، وبينما يعيش الأهالي على أمل معرفة مصير أبنائهم، تظل المسؤولية الأخلاقية والقانونية للمجتمع الدولي قائمة، لمحاسبة المسؤولين ومنع تكرار هذه الانتهاكات التي تهدد مستقبل أجيال كاملة.