بين قمع الشارع وتضييق الجمعيات.. تقارير حقوقية تكشف تآكل الديمقراطية في فرنسا
بين قمع الشارع وتضييق الجمعيات.. تقارير حقوقية تكشف تآكل الديمقراطية في فرنسا
أثار تقرير حقوقي مشترك صدر في 25 سبتمبر 2025 تحذيرات جدية بشأن مستقبل الحريات العامة في فرنسا الدولة التي طالما قدمت نفسها باعتبارها "أرض حقوق الإنسان"، ورسم التقرير الذي أعده المعهد الدولي لحقوق الإنسان، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، والرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان، صورة قاتمة عن التدهور المتسارع في الحقوق المدنية والسياسية، بدءاً من تضييق الخناق على الجمعيات المستقلة وصولاً إلى قمع الاحتجاجات الشعبية.
يرى التقرير، بحسب ما أورده موقع "الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان"، أن هذا التدهور ليس مجرد حوادث متفرقة بل يعكس مساراً هيكلياً ينذر بتقويض الأسس الديمقراطية، وتشمل الممارسات المثيرة للقلق الخطابات العدائية الرسمية ضد منظمات المجتمع المدني، قرارات إدارية بإغلاق جمعيات، تقليص التمويل العام الموجه إليها، إضافة إلى تصاعد العنف الشرطي ضد المتظاهرين.
تقول أليس موغوي، رئيسة المعهد الدولي لحقوق الإنسان: "فرنسا التي اعتادت انتقاد دول أخرى بشأن الحريات، تواجه اليوم أزمة داخلية تهدد بتقويض مصداقيتها التاريخية بوصفها نموذجاً للديمقراطية".
حل الجمعيات واستهداف الأصوات المعارضة
من بين القضايا البارزة التي سلط عليها التقرير الضوء، قرار الحكومة في عام 2020 بحل "الجمعية الوطنية لمناهضة الإسلاموفوبيا في فرنسا" بقرار إداري استند إلى اتهامات فضفاضة، ورغم الانتقادات، أيدت المحكمة الإدارية العليا هذا الإجراء، ما فتح الباب أمام استخدام مكافحة الإرهاب أداة لتكميم الأصوات المعارضة.
كما أدى إقرار قانون "الاستقلالية" إلى فرض "عقد الالتزام الجمهوري" على الجمعيات الساعية للحصول على دعم مالي عام. وبسبب غياب معايير واضحة، بات هذا العقد وسيلة محتملة للتضييق وإجبار الجمعيات على الرقابة الذاتية خشية فقدان الدعم.
ناتالي تيهيو، رئيسة الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان، اعتبرت أن هذه السياسات خلقت "أجواءً من الخوف تهدد المجتمع المدني بأكمله".
يشير التقرير إلى أن التهديدات لا تقتصر على الإجراءات القانونية والإدارية، بل تشمل أيضاً حملات تشهير منظمة ضد الجمعيات والمدافعين عن الحقوق، وصلت في بعض الأحيان إلى أعلى مستويات الدولة، فقد وصفت قيادات حكومية بعض المنظمات بأنها "إرهابية" أو "معادية للجمهورية"، ما عمّق مناخ التوجس والعداء تجاه العمل المدني.
قمع الشارع وملف الاحتجاجات
في السنوات الأخيرة، واجهت فرنسا سلسلة من الاحتجاجات واسعة النطاق، بدءاً من مظاهرات "السترات الصفراء" عام 2018 مروراً بالاحتجاجات البيئية والنقابية، وصولاً إلى مسيرات التضامن مع قضايا المهاجرين والأقليات، وقد وثقت تقارير المنظمات الحقوقية استخدام الشرطة للعنف المفرط، ومنه الرصاص المطاطي، والغاز المسيل للدموع، إلى جانب الاعتقالات الجماعية، والاحتجاز التعسفي.
في 2023 وحده، سجلت منظمات محلية مثل "ديفندر ديس دروا" أكثر من 300 شكوى تتعلق باستخدام مفرط للقوة ضد متظاهرين، كما خلصت لجنة تابعة للأمم المتحدة إلى أن "فرنسا لا تلتزم بالتزامها الدولي المتمثل في حماية الحق في التجمع السلمي".
يقول عيسى رحمون، الأمين العام للاتحاد الدولي لحقوق الإنسان: "وصل عنف الشرطة إلى مستوى خطير يهدد جوهر الديمقراطية الفرنسية".
البيئة واجهة جديدة للصراع
برزت الحركات البيئية بوصفها أحد الأهداف المباشرة للسلطات الفرنسية، فقد واجه نشطاء يعارضون بناء الطريق السريع A69 وخزانات المياه العملاقة في غرب فرنسا، قمعاً وصف بأنه غير مسبوق، ومنه المراقبة المكثفة ووصمهم بـ"الإرهابيين البيئيين"، ودفعت هذه الإجراءات منظمات دولية إلى التحذير من "تجريم الدفاع عن البيئة"، وهو اتجاه يثير القلق في أوروبا بأكملها.
تاريخ من توتر الحريات
رغم أن فرنسا ارتبط اسمها منذ الثورة الفرنسية بمبادئ الحرية والإخاء والمساواة، فإن تاريخها ليس خالياً من التناقضات، ففي حالات سابقة، مثل "قانون الطوارئ" بعد هجمات 2015، جرى تقييد الحريات لفترات مطولة بذريعة الأمن، كما أن قضايا التمييز ضد الأقليات الدينية والعرقية، خاصة المسلمين، كثيراً ما وضعتها تحت مجهر المنظمات الأممية.
لكن الملاحظ أن الإجراءات الحالية، بحسب التقرير، لم تعد مؤقتة أو استثنائية، بل تحولت إلى سياسات دائمة تترسخ في البنية التشريعية والإدارية.
ردود أفعال محلية ودولية
المنظمات الفرنسية، ومنها "الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان"، نبهت إلى خطورة "تفريغ حرية تكوين الجمعيات من مضمونها"، كما دعت إلى إعادة فتح قنوات الحوار مع الدولة التي اختارت، وفق وصفها، "نهج المواجهة بدلاً من الشراكة".
على الصعيد الدولي، عبرت الأمم المتحدة عن قلقها من هذه التطورات، ففي تقرير المقررة الخاصة المعنية بالحق في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات لعام 2024، وردت إشارة مباشرة إلى "القيود غير المتناسبة" المفروضة في فرنسا، كما دعت المفوضية الأوروبية باريس إلى مراجعة سياساتها بما يتماشى مع ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي.
التداعيات الإنسانية والمجتمعية
لا تقتصر تداعيات تراجع الحريات على الجانب القانوني فحسب، بل تمتد إلى المجال الإنساني، إذ يؤدي التضييق على الجمعيات إلى إضعاف قدرتها على تقديم الدعم للمهاجرين، اللاجئين، والضحايا المحتاجين، كما أن قمع الاحتجاجات يترك آثاراً نفسية واجتماعية عميقة، خاصة بين الشباب الذين يفقدون الثقة في المؤسسات الديمقراطية.
المسؤولية الدولية والقانونية
تُذكّر المنظمات الحقوقية بأن فرنسا، بصفتها طرفاً في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، ملزمة بحماية حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات، وأي إخفاق في هذا الصدد يضعها أمام مساءلة قانونية.
وبينما تواصل الحكومة الفرنسية تبرير سياساتها بمقتضيات الأمن العام والاستقرار، تتصاعد المخاوف من أن تكون هذه الإجراءات مؤشراً على انزلاق تدريجي نحو "اللاديمقراطية المقننة"، وبالنسبة للمجتمع المدني والمدافعين عن الحقوق، فإن اللحظة الراهنة تمثل اختباراً صعباً لقدرة فرنسا على استعادة مكانتها في كونها حامية للحريات، لا منتهكة لها.