أزمة الهجرة تتفاقم في فرنسا بين اتهامات العنصرية وحوافز الترحيل الطوعي
أزمة الهجرة تتفاقم في فرنسا بين اتهامات العنصرية وحوافز الترحيل الطوعي
في خضم الجدل المتواصل حول قضايا الهجرة في أوروبا، تجد فرنسا نفسها أمام أزمة جديدة تثير جدلًا محليًا ودوليًا، بعد أن طفت إلى السطح تصريحات وُصفت بالعنصرية، صادرة عن مسؤولين فرنسيين، تترافق مع سياسة قائمة على "الترحيل الطوعي" للمهاجرين غير النظاميين عبر حوافز مالية.
الأزمة تكشف تداخل السياسة بالخطاب الشعبوي، وتعكس ضغوطًا متزايدة من تيارات سياسية يمينية ومن قطاعات اجتماعية تخشى تداعيات موجات الهجرة، في وقت يرفع فيه المدافعون عن حقوق الإنسان أصواتهم محذرين من انزلاق فرنسا نحو ممارسات تتعارض مع التزاماتها الدولية بحسب صحيفة "الشروق" التونسية.
أحد أبرز الأمثلة على التصريحات التي أثارت استياءً واسعًا جاءت من ألكسندر بروجير، محافظ أو دو سين، خلال زيارته مركز نانتير للاحتجاز، في مشهد نقلته صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، أنه خاطب المهاجرين: "أيها السادة، لم يعد لكم مكان في فرنسا، وأنتم غير مرحب بكم، يمكنكم المغادرة بكرامة أو بالقوة".
وجاءت التصريحات التي وُصفت بالمهينة وسط ظروف احتجاز مأساوية، إذ يستقبل مركز نانتير نحو 1320 شخصًا رغم أن طاقته لا تتجاوز 590، ما يعني كثافة سجنية تفوق 200%، إضافة إلى عشرات الأسرّة الأرضية والزنازين المكدسة.
سياسات الترحيل الطوعي
إلى جانب هذه التصريحات، تمضي السلطات الفرنسية في تكثيف برامج "العودة الطوعية" عبر تقديم حوافز مالية للمهاجرين غير النظاميين، فيحصل من يقرر مغادرة فرنسا خلال شهر من صدور أمر الترحيل على 1200 يورو، مع إضافة 600 يورو للأطفال، أما من يتأخر، فتقل القيمة تدريجيًا، إضافة إلى ذلك، يتيح برنامج إعادة الإدماج في بلدان الأصل مساعدات تراوح بين 1000 و7000 يورو، بحسب طبيعة المشروع المقدم، وذلك بالتعاون مع المكتب الفرنسي للهجرة والإدماج.
وفق بيانات رسمية فرنسية، شهد عام 2024 ترحيل ما يقارب 15 ألف مهاجر بشكل طوعي عبر هذه البرامج، في حين صدرت أوامر مغادرة بحق أكثر من 120 ألف شخص، لم يُنفذ سوى ثلثها، وتشير تقارير الاتحاد الأوروبي إلى أن فرنسا تُعد من أكثر دول الاتحاد إصدارًا لأوامر الطرد، لكنها تواجه عقبات قانونية ودبلوماسية، خصوصًا مع دول المغرب العربي التي ترفض استقبال المرحّلين في ظل توتر العلاقات السياسية.
جدل الهجرة في فرنسا ليس جديدًا، فمنذ السبعينيات، ومع موجات الهجرة القادمة من المستعمرات السابقة مثل الجزائر والمغرب وتونس، تعالت الأصوات المنادية بالحد من تدفق المهاجرين، وشهدت البلاد في التسعينيات تشديدات قانونية متتالية، في حين شكّل صعود اليمين المتطرف مع جان ماري لوبان ومن بعده ابنته مارين لوبان منعطفًا حادًا في النقاش العام حول المهاجرين، إلا أن التطور الأبرز يتمثل اليوم في تبني بعض ممثلي التيار الوسطي والحكومة لغة أقرب إلى الشعبوية اليمينية، ما يجعل الأزمة أكثر حدة.
ردود فعل حقوقية
أثارت تصريحات بروجير موجة إدانات من منظمات حقوقية فرنسية مثل “الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان” التي عدّت الخطاب "عنصريًا وغير إنساني"، كما أصدرت منظمة العفو الدولية بيانًا أكدت فيه أن "الترحيل المشروط بحوافز مالية لا يلغي الطابع القسري للعملية"، محذرة من أن هذه السياسات تضعف حق المهاجرين في طلب اللجوء والحماية الدولية.
أما على المستوى الأممي، فقد شدد مكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين على أن أي برنامج للعودة يجب أن يكون طوعيًا بحق، خاليًا من الضغط والإكراه، ومصحوبًا بضمانات لإعادة الإدماج الآمن في بلد الأصل، وأكدت أن استخدام لغة تمييزية بحق المهاجرين "يتعارض مع التزامات فرنسا بموجب اتفاقية جنيف للاجئين والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية".
الجدل الداخلي في فرنسا لا ينفصل عن السباق السياسي المحتدم قبل الانتخابات المحلية والأوروبية المقبلة، فالحكومة الفرنسية تواجه ضغطًا متزايدًا من المعارضة اليمينية التي تطالب بسياسات أكثر تشددًا في ملف الهجرة، في حين تحاول في الوقت ذاته طمأنة الشارع الغاضب من أزمات اقتصادية وأمنية، وتعكس تصريحات المسؤولين الأخيرة هذا التوازن الصعب بين إظهار الحزم وتجنب الانزلاق إلى اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان.
إحدى العقد الأساسية في ملف الترحيل تتعلق بالجزائر، فمنذ بداية عام 2025، توقفت عمليات الترحيل تقريبًا بسبب رفض الجزائر استقبال مواطنيها إلا في إطار احترام صارم للإجراءات القنصلية، وهذا التوتر يعود إلى محاولة وزير الداخلية الفرنسي السابق ترحيل نشطاء جزائريين بطرق وُصفت بغير القانونية، ما دفع الجزائر إلى اتخاذ موقف متشدد، وكانت النتيجة أن الجزائريين، الذين يشكلون نسبة كبيرة من المهاجرين غير النظاميين في فرنسا، أصبحوا محورًا لأزمة دبلوماسية تضاف إلى الأزمة الداخلية.
الترحيل بين القانون والواقع
القانون الدولي الإنساني يضع قيودًا صارمة على سياسات الترحيل، حيث يحظر الترحيل القسري الجماعي، ويفرض على الدول احترام مبدأ عدم الإعادة القسرية الذي يمنع إعادة أي شخص إلى بلد قد يتعرض فيه للتعذيب أو الاضطهاد، وقد أشارت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش إلى أن الحوافز المالية، حين تُقترن بخطابات تهديدية، تجعل من "العودة الطوعية" عملية أقرب إلى الإجبار.
ما يحدث في فرنسا يعكس اتجاهًا أوسع داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تتنامى سياسات تشديد الهجرة، ففي ألمانيا طُرحت مقترحات لزيادة مساعدات العودة الطوعية، في حين اعتمدت إيطاليا سياسات احتجاز مطولة للمهاجرين، وهذا التناغم يعكس أزمة أوروبية شاملة في التعامل مع ملف الهجرة، إذ تغيب الرؤية الموحدة بين الالتزامات الحقوقية والضغوط السياسية الداخلية.
الأزمة الراهنة حول تصريحات عنصرية وحوافز مالية لترحيل المهاجرين تكشف التناقض العميق في السياسات الفرنسية بين خطاب قاسٍ يشدد على "عدم الترحيب"، مقابل إغراءات مالية تدّعي الطوعية، وبينما يحاول الساسة إرضاء قواعد انتخابية قلقة، يظل آلاف المهاجرين عالقين في ظروف احتجاز غير إنسانية، أو تحت ضغط الاختيار بين البقاء في المجهول أو العودة إلى المجهول، وفي غياب معالجة إنسانية عادلة، ستبقى فرنسا أمام مأزق أخلاقي وقانوني تتجاوز أصداؤه حدودها لتصل إلى قلب النقاش الأوروبي والدولي حول الهجرة وحقوق الإنسان.