حقوق الإنسان في خطر.. تقارير أممية تكشف تناقض الدول بين خطابها وسلوكها

خلال أعمال الدورة الستين بجنيف

حقوق الإنسان في خطر.. تقارير أممية تكشف تناقض الدول بين خطابها وسلوكها
مجلس حقوق الإنسان في جنيف

في قاعة مجلس حقوق الإنسان بجنيف، خلال أعمال دورته الستين بدا المشهد متناقضاً ممثلاً في دول يجلس ممثلوها في موقع الحكم والرقابة على احترام الحقوق، بينما تُوجَّه إليها الاتهامات ذاتها بارتكاب انتهاكات صارخة ضد المدافعين عن حقوق الإنسان، حيث ناقش الأعضاء التقرير السنوي للأمين العام للأمم المتحدة بشأن أعمال الانتقام ضد الأفراد والمنظمات الذين يتعاونون مع آليات المنظمة الأممية.

بحسب ما أورده موقع منظمة "الخدمة الدولية لحقوق الإنسان" (ISHR) الخميس، تضمن التقرير الذي صدر في 17 سبتمبر، وقائع من 32 دولة، من بينها عشر دول أعضاء في المجلس ذاته، متورطة في أعمال انتقامية تتراوح بين الاعتقال والملاحقة القضائية والمنع من السفر، وصولاً إلى التهديد المباشر وحملات التشهير العلني، وهذا التناقض سلط الضوء على أزمة عميقة تهدد مصداقية النظام الدولي لحقوق الإنسان، وأثار تساؤلات جوهرية حول حدود المحاسبة عندما يكون المنتهك نفسه جزءاً من الجهاز المفترض أن يحاسب.

تصاعد القمع وتعقيد أساليبه

أكد التقرير أن "قمع المدافعين عن حقوق الإنسان على مستوى العالم يتزايد من حيث الحجم والتعقيد"، خصوصاً تجاه من يتعاونون مع الأمم المتحدة، ورصد "القمع العابر للحدود"، حيث تطارد الحكومات المعارضين والناشطين حتى خارج حدودها عبر المراقبة والتهديد والخطف أحياناً.

إيلز براندز كهرس، نائبة الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون حقوق الإنسان، نبهت إلى أن انخفاض عدد البلاغات في بعض الدول لا يعني تحسناً في الأوضاع، بل قد يعكس نجاح أساليب التخويف التي تمنع الضحايا من رفع أصواتهم، وهنا يبرز بعد إنساني خطير: فغياب الشكاوى قد يكون مؤشراً على كبت ممنهج، لا على تقدم حقيقي.

من المحلية إلى العالمية

أبرزت المناقشات عدداً من القضايا التي باتت رموزاً لحالة الترهيب الممنهج. فقد أشار بيان بلدان "بنيلوكس" إلى حالات مثل الصحفي الجيبوتي قادر عبدي إبراهيم، والمحامية المكسيكية كلوديا غونزاليس أوريانا، والناشط الإيراني منوشهر باختياري، والصحفية الفيتنامية فام دوان ترانغ. كما تناولت دول أخرى قضايا بارزة منها ناشطي مركز "فياسنا" في بيلاروسيا، فضلاً عن قضايا في روسيا والصين وهونغ كونغ والكاميرون.

أعضاء المجلس في قفص الاتهام

الجانب الأكثر حساسية أن عشر دول من أصل 32 واردة في التقرير، هي في الوقت نفسه أعضاء حاليون في مجلس حقوق الإنسان، وهذا الواقع يضع المجلس أمام تحدٍ مزدوج: كيف يمكن لجهاز يضم دولاً متهمة بالانتقام من المدافعين عن حقوق الإنسان أن يؤدي دوره كمنصة للمساءلة؟ ومن هنا برزت دعوات متزايدة لإصلاح آليات اختيار الأعضاء وضمان أن احترام الحقوق شرط أساسي للعضوية، لا مجرد التزام نظري.

من "الإعلان" إلى الأزمات المعاصرة

منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، ارتبط الدفاع عن المدافعين بحقوق الإنسان بروح ميثاقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، وفي 1998، تبنت الجمعية العامة "إعلان حماية المدافعين عن حقوق الإنسان"، الذي أكد حق كل فرد في السعي لحماية حقوقه والتعاون مع المنظمات الدولية دون خوف من العقاب، غير أن تقارير الأمين العام منذ أكثر من عقد تكشف نمطاً متكرراً من الانتقام، ما يعكس فجوة متنامية بين الالتزامات المعلنة والممارسات الواقعية.

على سبيل المثال، أشار تقرير عام 2010 إلى 15 دولة فقط متورطة في أعمال انتقامية، بينما تضاعف العدد اليوم إلى 32 دولة، أي أكثر من 16% من أعضاء الأمم المتحدة، ويشير هذا التصاعد إلى أن الظاهرة ليست عارضة، بل بنيوية ومتجذرة في الأنظمة السياسية التي ترى في التعاون مع الأمم المتحدة تهديداً لسيادتها أو صورتها الدولية.

ردود فعل المجتمع المدني والمنظمات الدولية

وصفت ماجدلين سينكلير، مديرة مكتب منظمة حقوق الإنسان الدولية في نيويورك، أعمال الانتقام بأنها "إسكات للأصوات وتدمير للنظام الأممي نفسه"، فيما شددت إليز غولاي، مديرة الحملات في ISHR، على ضرورة أن يدرج الأمين العام جميع القضايا العالقة في التقرير السنوي لمعالجة الإفلات من العقاب، بما في ذلك الانتهاكات التي تستهدف خبراء الأمم المتحدة أنفسهم.

عدد من الدول الغربية، منها ألمانيا وأستراليا والدنمارك، استخدمت منابر المجلس لمطالبة بآليات محاسبة أقوى، بينما أعربت منظمات المجتمع المدني عن قلقها من غياب الإرادة السياسية لمعالجة جذور المشكلة، خاصة حين يتعلق الأمر بدول قوية أو مؤثرة داخل المجلس.

الخوف كأداة قمع

أعمال الانتقام لا تعني فقط انتهاك حق فرد أو منظمة، بل تعكس مناخاً أوسع من الخوف يقوّض قدرة المجتمع المدني على العمل. عندما يُمنع ناشط من السفر أو تُصادر وثائقه، أو تُستهدف أسرته، يوجه النظام رسالة واضحة إلى الآخرين: "التعاون مع الأمم المتحدة ثمنه باهظ"، وهذا ما يخلق أثراً مضاعفاً يُعرف في علم الاجتماع السياسي بـ"الأثر المخيف"، حيث يعزف آخرون عن ممارسة حقوقهم خوفاً من المصير ذاته.

هذا الأثر له عواقب مباشرة على حقوق ملايين الأفراد، إذ يحرمهم من وسيلة أساسية للتعبير عن الانتهاكات وطلب الدعم الدولي، كما يضعف قدرة الأمم المتحدة على رصد الحقائق واتخاذ إجراءات فعالة.

القانون الدولي.. الالتزامات والانتهاكات

تنتهك أعمال الانتقام التزامات واضحة نصت عليها مواثيق واتفاقيات دولية، منها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 19 و21 و22) التي تكفل حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات، كما تتعارض مع إعلان 1998 الخاص بالمدافعين، ومع ميثاق الأمم المتحدة نفسه، وعليه، فإن استمرار هذه الممارسات، خصوصاً من جانب أعضاء مجلس حقوق الإنسان، لا يمثل فقط انتهاكاً فردياً، بل تهديداً لشرعية النظام القانوني الدولي.

نحو إصلاح أممي؟

يثير هذا الوضع أسئلة جوهرية: هل تحتاج الأمم المتحدة إلى آليات أقوى لحماية المدافعين، بما يشمل عقوبات مباشرة على الدول المتورطة في أعمال انتقامية؟ وهل يجب إعادة النظر في معايير عضوية مجلس حقوق الإنسان؟ النقاشات الجارية في جنيف أشارت إلى الحاجة الماسة لإصلاحات، لكن توازنات القوى ومصالح الدول الكبرى ما زالت عقبة رئيسية.

الجلسة الستون لمجلس حقوق الإنسان لم تكن مجرد نقاش تقني حول تقرير أممي، بل محطة كاشفة لأزمة عميقة تهدد النظام الدولي لحقوق الإنسان، فحين يتحول الدفاع عن الحقوق إلى سبب للانتقام، وحين يصبح المجلس ذاته موطناً لبعض المنتهكين، فإن الرهان يصبح أكبر من مجرد قضية فردية، إنه رهان على مصداقية الأمم المتحدة ذاتها، وعلى مستقبل منظومة حقوقية تُعتبر في نظر ملايين البشر الملاذ الأخير ضد القمع والاستبداد.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية