من سلاسل التوريد إلى قاعات المحاكم.. كيف يستخدم القضاء كآلية لردع استغلال العمال المهاجرين؟
من سلاسل التوريد إلى قاعات المحاكم.. كيف يستخدم القضاء كآلية لردع استغلال العمال المهاجرين؟
تتصاعد الدعوات لتمكين المحاكم من محاسبة الشركات متعددة الجنسيات عن استغلال العمال المهاجرين لسببين مترابطين: أولاً، لأن آليات الإصلاح الطوعية والضوابط الذاتية للشركات لم تنجح في وقف ممارسات العمل القسري والخصم غير المشروع من الأجور وعمالة الأطفال والتجاوزات الصحية والسلامة؛ وثانياً، لأن الوصول إلى سبل الانتصاف المدنية أمام المحاكم الوطنية يوفر وسيلة عملية لطلب تعويضات وإنصاف الضحايا وإرساء سابقة رادعة.
بحسب موفع "business-humanrights" فإن جعل الشركات عرضة للمساءلة القضائية يرسخ مبدأ أساسياً أنه لا يمكن لربحية الشركات أن تُبنى على انتهاك حقوق البشر، وخاصة الأشد هشاشة ومنهم العمال المهاجرون الذين غالباً ما يعملون في ظروف لا يحميهم فيها القانون المحلي.
أسباب الاستغلال والتعقيد القانوني
يتغذى استغلال العمال المهاجرين على مجموعة عوامل هيكلية: الاعتماد على عقود التعاقد الفرعي المتشعّبة داخل سلاسل التوريد، واعتماد أنظمة توظيف تُلزم العمال برسوم توظيف باهظة أو تحجب وثائقهم، وضعف تطبيق قوانين العمل في دول المنشأ أو الوجهة، وحالة الهشاشة القانونية للعمال غير النظاميين، تُضاف إلى ذلك ممارسات الشركات التي تتذرع بوجود "موردين مستقلين" لنفي مسؤوليتها المباشرة، مع استفادة فعلية من العلاقات التجارية والسيطرة على شروط الإنتاج، ومن الناحية القانونية، تعترض هذه الشركات طلبات المحاكم بصعوبات الاختصاص ومكان التقاضي، فترجيح فصل المسؤولية إلى الدولة التي وقع فيها الضرر يمنع دوماً فعالية التعويض.
تداعيات إنسانية واجتماعية كبيرة
يعاني العمال العديد من الانتهاكات، منها الإصابات المهنية، وفقدان الأجور، والعمل القسري، واستغلال الأطفال، واندثار الكرامة الأسرية، كما يعاني العامل المهاجر إفراطاً في ساعات العمل، وظروف صحية خطرة، وفقدان وسائل حماية أساسية، وخطر الطرد أو الانتقام عند محاولة المطالبة بحقوقه، وعلى المستوى المجتمعي، يولّد الاستغلال دوامات فقر بين أسر معتمدة على تحويلات الأجر، ويقوّض إمكانات التنمية المحلية، ويُعمّق عدم المساواة بين الدول والمجتمعات.
نماذج قضائية
شهدت السنوات الأخيرة تحولاً ملحوظاً في مواقف بعض المحاكم، خصوصاً في المملكة المتحدة، التي أضحت تُعدّ قاعاتها مفتوحة أمام دعاوى العمال المتضرّرين في الخارج، فقد أظهرت قضايا مثل "Vedanta v Lungowe" أن المحاكم البريطانية قد تقبل اختصاصها للنظر في دعاوى تتعلق بأضرار ناشئة عن فروع فاعلة في الخارج، إذا تبين أن للشركة الأم دوراً رقابياً أو تحكمياً على عمليات تلك الفروع، كما سمح قرار المحكمة العليا في قضية "Okpabi" للمجتمعات النيجيرية بمواصلة دعاوى ضد شركة أمٍّ مقرّها المملكة المتحدة بشأن أضرار بالبيئة وصحة السكان تسببت بها شركة فرعية.
أحدث تجلٍ لهذا التوجّه قضائيًا جاء في قضايا عمال مهاجرين ضد مجموعة دائمة الصيت، حين أذنت محكمة الاستئناف الإنجليزية لعمال نيباليين وبنغلاديشيين برفع دعاوى ضد مجموعة شركات Dyson"" بشأن مزاعم العمل القسري والمعاملة القاسية لدى مورّدٍ في ماليزيا، ما يفتح الباب أمام تحقيقات ميدانية في سلاسل التوريد وتحميل الشركة الأم مسؤولية الرقابة والتدخّل.
من الالتزام الطوعي إلى واجب الفعل القانوني
على صعيد التشريعات، دخلت أوروبا مرحلة جديدة عبر توجيه الاتحاد الأوروبي بشأن واجب التحقق من حقوق الإنسان في سلاسل الإمداد (CSDDD) الذي دخل حيز التنفيذ ويُلزم الشركات الكبرى بإجراء تحقيقات واجبة وتبني إجراءات علاجية للانتهاكات، وهذا التوجّه التشريعي يعزّز مكانة دعاوى التعويض أمام المحاكم ويمنح ضحايا انتهاكات خارج أوروبا أدوات أفضل لمساءلة الشركات متعددة الجنسيات.
عوائق عملية وقانونية أمام العدالة
رغم هذه التقدّمات، يواجه العمال المهاجرون عقبات عملية كبيرة منها مطالبات الاختصاص التي ترفعها الشركات، ودعاوى SLAPP المستخدمة لردع المدّعين ومحاميهم، وتكاليف التقاضي الباهظة، وصعوبة توثيق سجلات العمل في بلدان المنشأ، وخوف الضحايا من الانتقام أو الترحيل، كما أن تشتت الأدلة عبر الحدود وخضوعها لقوانين متباينة يزيد التعقيد، فضلاً عن ثقافة الإفلات من العقاب في بعض الدول المضيفة للموردين.
لماذا المحاكم مهمة رغم التحديات؟
المحاكم تؤدي ثلاث وظائف حاسمة أولها منح الضحايا فرصة للحصول على تعويض فعلي عن الأضرار؛ وثانيهاً، إنشاء سوابق قانونية تلتزم بها الشركات ومجالس إدارتها، ما يغيّر من سلوك السوق؛ وثالثهاً، دفع الحكومات لسن تشريعات إلزامية لمساءلة سلاسل التوريد وإجراءات التحقق.
توصيات عملية ومطالب حقوقية
لتكون المحاكم فعّالة في حماية العمال المهاجرين، يلزم بحسب توصيات حقوقية تنفيذ حزمة من الإصلاحات منها توسيع معايير الاختصاص القضائي لتشمل مؤسسات الشركات الأم التي تمارس سيطرة فعلية؛ سن قوانين إلزامية للتمحيص في سلاسل الإمداد وتحديد مسؤولية التعويض؛ اعتماد آليات تمويل للمدّعين ذوي الموارد المحدودة (مثل صناديق دعم أو تمويل جماعي للقضايا ذات الطابع العام)؛ حماية قانونية من دعاوى SLAPP؛ وتسهيل تبادل الأدلة عبر تعزيز التعاون القضائي الدولي، كما ينبغي أن تُرافق هذه الإصلاحات سياسات حماية اجتماعية للعمال وإجراءات تفتيش ومراقبة عمالية دولية.
العدالة شرط لاقتصاد مسؤول
محاكمة الشركات على استغلال العمال المهاجرين ليست مجرد مسألة تعويضية، بل هو اختبار لمدى قدرة المجتمعات والدول على جمع الحقوق بالاقتصاد العادل، إذ تضمن المحاكم، حين تُطبّق بصرامة، أن لا يبقى الاستغلال طريقاً منخفض التكلفة لتحقيق أرباح شركاتية، ومع تزايد السوابق القضائية والتشريعات مثل توجيه الاتحاد الأوروبي، يتبلور مشهد قانوني أقوى يربط بين الربح والمسؤولية، ومع ذلك، لا يكفي التشريع وحده؛ فالوصول للعدالة يتطلب دعمًا عمليًا للضحايا، وتعاونًا دوليًا لمكافحة أساليب الإفلات من العقاب، وإرادة سياسية لفرض قواعد واضحة تضع كرامة العامل المهاجر في قلب الاقتصاد العالمي.