من الملاحقة الإلكترونية إلى الاستنزاف المؤسسي.. كيف تحارب أدوات القمع الرقمية الحركات النسوية؟
من الملاحقة الإلكترونية إلى الاستنزاف المؤسسي.. كيف تحارب أدوات القمع الرقمية الحركات النسوية؟
خلال ندوة نظمها تحالف ناشطات ومنظمات حقوقية في نهاية سبتمبر المنقضي تحت عنوان "السلامة لحقوق الإنسان"، تحدثت ناشطات من مناطق مختلفة عن واقع أدوات قمع جديدة عبر الإنترنت وفي الفضاء الرقمي تجعل من الصمود أمراً صعباً، ومن بناء حركة مجتمعية أمراً يكاد يصبح مستحيلاً دون حماية متينة وموارد مستقرة.
الندوة التي نظمتها شبكة منظمات "APC" جمعت شهادات مباشرة عن استراتيجيات قمع متطورة تضاعف المخاطر على النساء المدافعات وتنهك قدرات الحركة على الاستمرار.
لماذا القمع الرقمي الآن؟
يتقاطع القمع الرقمي مع منطقين متوازيين: أولا تحول الحكومات وأنظمة القوة إلى استخدام تقنيات المراقبة والتشهير وإجراءات قانونية مبهمة كأدوات لتعطيل العمل المدني، وثانياً تغيّر نماذج التمويل الدولي التي تُضعِف الشبكات الجماعية وتحولها إلى مشاريع قصيرة الأجل لا تُبنى عليها مقاومة مستدامة، إضافة لذلك، الطفرات في منصات التواصل وازدياد اعتماد الحركات على الفضاء الرقمي لاستدعاء الدعم وتنظيم العمل يجعلها عرضة لهجمات إلكترونية، وحملات تشهير ممنهجة، والتجسس عبر برمجيات خبيثة تستهدف هواتف وأجهزة ناشطات، وفق منظمة العفو الدولية.
أبعاد رقمية وجندرية.. لماذا تتأثر النساء أكثر؟
القمع الرقمي لا يضرب المجتمع العام بشكل متكافئ، فالتجارب الميدانية تشير إلى أن النساء المدافعات يتعرضن لأنواع محددة من العنف الرقمي تُستغل فيها قوالب الجندر: من حيث التهديدات الجنسية، ونشر الصور والمعلومات الخاصة (doxxing)، استهداف العائلات، وحملات التشهير التي تستهدف سمعة المرأة في مجتمعات محافظة، ما يؤدي إلى عزلها اجتماعياً وإجبارها على التوقف عن العمل العام، كما أن الواقع العملي في كثير من البيئات يجعل الأجهزة مشتركة بين أفراد الأسرة أو محدودية الخصوصية تشكل نقاط ضعف إضافية للنساء، وهذه الفجوة الجندرية في الأمن الرقمي تُضعف قدرة الحركات النسوية على تنظيم نفسها علنياً أو إلكترونياً.
التحذيرات ليست مجرد روايات ميدانية؛ فقد رصدت مؤسسات حقوقية وثيقة الصلة انتشار العنف الرقمي وتزايد المخاطر، وتقارير الأمم والمنظمات المتخصصة تشير إلى أن العنف عبر المنصات يستهدف فئات مهنية مثل الصحفيات والناشطات بنسب مرتفعة، وتُظهر دراسات أن نسبة عالية من النساء العاملات في الإعلام تعرضن للعنف الرقمي أثناء عملهن، كما رصدت مؤسسات حماية المدافعين عن حقوق الإنسان ارتفاعاً في عمليات الترصد والاعتداءات المرتبطة بالعمل الحقوقي، ما أدى إلى سقوط ضحايا وقتلى في أحيان متعددة، ويدعو المجمع الحقوقي الدولي الآن إلى اعتبار التعرض الرقمي اضطراباً يهدد سلامة الحركات وحق المواطنة.
تداعيات إنسانية ومجتمعية
تعرّض ناشِطات لعنف رقمي يعني فقدان خدمات أساسية يقمن بها من حماية ضحايا العنف، مثل توثيق الانتهاكات، وتقديم الاستشارات القانونية، أو قيادة حملات توعية؛ كل حالة إسكات أو ابتعاد عن العمل العمومي تترك فراغاً في نُظم حماية المجتمع المحلي، وتزيد من هشاشة فئات مثل النساء المعنفات والأقليات، كما تولّد حملات التشهير والعزل الاجتماعي تداعيات نفسية عميقة على المدافعات وأسرهن، وتُضعف الروابط المجتمعية التي تشكل ركائز المقاومة، وهذه الخسارة العملية والإنسانية تُقاس ليس بساعات تغيب عن شبكة التواصل، بل بأجيال قد تُحرم من امتلاك قدرات تنظيمية مدنية.
ردود فعل المنظمات الدولية والمحلية والإطار القانوني
ردّت منظمات مثل فرونت لاين ديفيندرز وأمنستي والمنظمات النسوية ببيانات تنديد ودعوات لحماية عاجلة، مطالبة بحظر برمجيات التجسس ووسائل الترصد غير المحسوبة ووضع آليات دعم مالي وتقني للمدافعات، كما أكدت هيئات الأمم المتحدة، بما في ذلك القرارات المتصلة بسلامة المدافعين، ضرورة معالجة مخاطر العصر الرقمي باعتبارها قضية حقوقية تتطلب سياسات دولية ووطنية لحماية الأفراد والجماعات.
المنظمات الحقوقية تطالب أيضاً بتحديث التشريعات الوطنية لتجرّم تجريد الأفراد من الخصوصية الرقمية أو استغلال منصات التواصل كأدوات للتمييز والعنف.
عقبات الاستدامة
نماذج التمويل الحالية لا تدعم صمود الحركات؛ فالتمويل القصير الأجل، ورقابة النتائج التقليدية، وشروط الشفافية البيروقراطية تُحوّل المنظمات إلى مُنفذين لمهام قصيرة لا تسمح ببناء أمن جماعي أو بنية تحتية رقمية مستدامة، وتطالب الناشطات بتمويل طويل الأمد ومرن يتيح بناء قدرات تقنية، ودعم نفسي، ومشروعات دخل بديلة تحصّن المدافعات من الضغوط الاقتصادية التي تُستغل ضدهنّ.
مقترحات عملية
الجهات الحقوقية والخبراء يطالبون بإجراءات متكاملة منها اعتماد برامج تمويل طويلة الأجل للمجموعات النسوية، وبناء قدرات أمن رقمي متخصصة تراعي الفوارق الجندرية، وتأسيس خطوط دعم قانوني ونفسي للطوارئ، والبدء بحملات ضغط على شركات التكنولوجيا لمنع تسليمهن أدوات المراقبة إلى حكومات قمعية، وتطوير آليات تعاون دولية لحماية المدافعات المهددات وتصويب سياسات المانحين.
الندوة والتحليلات المتوافرة توضح أن السؤال لم يعد كيف تبقى الناشطات على قيد الحياة في عصر الملاحقة الرقمية، بل كيف نبني حركات قادرة على الصمود وتوفير الحماية للمجتمع الأوسع، وتحقيق ذلك يتطلب رؤية سياسية تمول وتنظم وتحمي؛ كما يتطلب اعترافاً جماعياً بأن قمع الأصوات الرقمية هو هزيمة للكرامة الإنسانية. إذا فشل المجتمع الدولي والجهات المانحة في تغيير منطق الدعم والأمن، فإن ما يُنجَز اليوم من نضالات على أرض الواقع سيبقى عرضة للاختفاء مع أول هجمة إلكترونية منظّمة بحسب شبكة "APC".










