حين يصبح تمثيل العمال تجارة.. تفكيك شبكة المحسوبية داخل أكبر اتحاد عمالي بإسرائيل
حين يصبح تمثيل العمال تجارة.. تفكيك شبكة المحسوبية داخل أكبر اتحاد عمالي بإسرائيل
داهمت قوات الشرطة الإسرائيلية مكاتب الاتحاد النقابي العمالي في إسرائيل "الهستدروت" ومنازل مسؤولين رفيعي المستوى، في واحدة من أكبر الحملات التي تشهدها مراكز القوى النقابية في البلاد.
ووفقًا لتحقيق أجرته وحدة "لاهاف 433" لمكافحة الجرائم الكبرى، فإن التحقيق الذي امتد أكثر من عامين كشف شبكة فساد متشعّبة ضمّت رؤساء بلديات، ومسؤولين في هيئات عامة، ورجال أعمال في قطاع التأمين والأعمال المرتبطة بالمؤسسات النقابية، وفق صحيفة "يديعوت أحرونوت".
تُوجّت الحملة باعتقال رئيس الهستدروت أرنون بار‑دافيد وزوجته، بالإضافة إلى عشرات مسؤولي الاتحاد والعاملين في البلديات الاتّهامات الموجهة تشمل تلقي رشى، وتعيينات مقابل منافع، وغسل أموال، وخيانة أمانة وفق موقع "جيروزاليم بوست"
يُعزى هذا الانفجار إلى خلل هيكلي في توازن السلطة داخل النقابة التي كانت تُعتبر صوت العمال، لكن تمخّض عن علاقات محورية بين رجال أعمال ومسؤولين في الاتحاد والبلديات، بحيث أصبح التمثيل النقابي أداة لتوسيع النفوذ المزدوج الاقتصادي والسياسي في إسرائيل.
التداعيات الإنسانية والمجتمعية
ما يحدث في الهستدروت لا يقتصر على فضيحة مالية فحسب، بل يضرب في صميم العلاقة بين العمال واتحادهم، وبين مؤسسات المجتمع المدني التي يُفترض أن تمثّل مصالحهم وتحمِي حقوقهم، فعندما يُكشف أن المسؤولين النقابيين عقدوا صفقات مشبوهة، فإن ثقة العمال تُهتز، وتصبح النقابة أداة شك في بدلاً من أن تكون وسيلة حماية. هذا الأمر يولّد شعورًا بالخذلان، ليس فقط من القوى النقابية، بل من النظام الذي يفترض أن ينظم العلاقة بين الطرفين.
من جهة ثانية، الأمر يحمل بُعداً إنسانياً مؤثراً: فالعامل البسيط الذي دفع اشتراكه أو اعتمد على خدمات النقابة يجد نفسه أمام واقع مفاده أن من يمثّله كان جزءًا من شبكة مصالح، وهذا الأمر يضعف حس المواطنة، ويزيد شعور الانفصال بين الفرد والجماعة.
كما أن الظهور الإعلامي لحملة الاعتقالات يُجعل العمال يواجهون ليس فقط الجوانب المالية، بل تداعيات اجتماعية، فقد يشعر العامل بأن دوره ووظيفته ومستقبله مرتبط بصفقات لم يكن يعلمها، ما ينعكس على حضور النقابة في محيطه المهني والاجتماعي.
على مستوى أوسع، تعمل هذه القضية كجرس إنذار لعملية الديمقراطية الداخلية في النقابات، وللخطر الذي يشكّله الفساد في مؤسسات يُفترض أن تكون أدوات تمكين، فحين تُوظّف الموارد النقابية لخدمة شبكة محسوبية، فإن ذلك يعمّق عدم المساواة ويضعف الأطر التي تُبنى عليها عدالة العمل، وحق المشاركة والتمثيل.
ردود الفعل
على الرغم من حداثة الكشف العلني عن التحقيق، فقد صدرت تصريحات رسمية من الشرطة الإسرائيلية التي وصفت القضية بأنها من أخطر التحقيقات التي أجرتها في مجال الفساد العمالي والرسمي.
وفي حين أن منظمات حقوق العمال الدولية لم تصدر بعد تقارير موسّعة عن هذا الملف تحديدًا، إلا أن المبدأ الذي تمسّه هذه القضية –أي استغلال النقابات لأهداف خاصة– دخل ضمن سياق التوصيات الدولية للشفافية في القطاع العمالي وحماية تمثيله الحقيقي، كما ينطوي ضمن قواعد منظمة العمل الدولية التي تشدّد على أن النقابات يجب أن تعمل بدمج مصالح العاملين والشفافية.
من جهة قانونية، فإن هذه القضية تُطرح في إطار أنشطة انتهاك الثقة واختلاس المنصب والتعيينات غير العادلة، وهي جرائم يعاقب عليها القانون الإسرائيلي، كذلك، فإنها تضع إسرائيل أمام مراقبة حقوقية أوسع، خصوصاً أن النقابات تُعد مؤسسات مدنية رئيسية، وانتهاكها يُعد سابقة قد تؤثر على صورة دولة تُعرف بأنها متقدمة في الحوكمة والشفافية.
رد الفعل الداخلي أيضًا مهم، فالاتحاد نفسه أصدر بيانًا أعلن فيه استعداده للتعاون الكامل مع السلطات وطلب إعادة بناء الثقة مع الأعضاء، لكن ذلك يأتي في وقت خرج فيه كثير من العمال للتساؤل عن مستقبل تمثيلهم، يعتبر المراقبون أن ما إذا كانت النقابة ستنجو من هذه الأزمة يعتمد على قدرتها على إصلاح داخلي واسع، وإجراء مراجعة حقيقية لعلاقاتها المالية والإدارية.
ملفات فساد
على الرغم من أن البيانات الدقيقة حول قيمة الأموال المعنية في هذا التحقيق لم تُعلَن بالكامل بعد، فإن ما ورد في التقارير يشير إلى ملايين الشواكل من العمولات والامتيازات التي تم تلقيها مقابل التعيينات والعقود التأمينية.
من جهة خلفية تاريخية، فإن إسرائيل ليست بمنأى عن ملفات فساد عمالية أو سياسية سابقة؛ ففي السبعينيات ظهرت فضيحة فضيحة يادلين حين تورّط مسؤول رفيع في نقابة في قضايا اختلاس رشوة، ما أنهى مساراً سياسياً مؤثّراً حينذاك، واليوم يعيد التحقيق الحالي تذكيراً بأن حتى المؤسسات التي يفترض أنها تمثّل الطبقة العاملة لا تُستثنى من الانحراف إذا غابت الرقابة.
كما أن العلاقات بين النقابات ورجال الأعمال والسلطات المحلية شكلت ظاهرة يتكرر ذكرها في تقارير مراقبة الفساد، إذ وإن ظلت شائعة فإنها لا تحظى دائماً بفضح إعلامي أو قضائي علني بهذا الحجم، وهذا ما يجعل حجم التحقيق في الهستدروت استثنائياً من حيث النطاق، إذ تشمل البلديات، والشركات العامة، والتعيينات داخل اتحاد العمال ذاته، ما يجعلها بطولة للقِيم التي يجري التحدّي منها.










