تراجع أوروبا عن حظر محركات الاحتراق.. انتكاسة مناخية تهدد الحق في الصحة والبيئة الآمنة

تراجع أوروبا عن حظر محركات الاحتراق.. انتكاسة مناخية تهدد الحق في الصحة والبيئة الآمنة
تراجع أوروبا عن حظر محركات الاحتراق

تفتح قرارات المفوضية الأوروبية الأخيرة المتعلقة بتخفيف حظر محركات الاحتراق الداخلي بابًا واسعًا لنقاشٍ حقوقي مباشر حول الحق في بيئة نظيفة، والحق في الصحة، ومسؤولية الدول والمؤسسات عن حماية الأجيال الحالية والمقبلة من آثار التغير المناخي، في وقتٍ يتراجع فيه أحد أكثر التشريعات البيئية طموحًا في تاريخ الاتحاد الأوروبي.

يؤكد هذا التراجع، الذي أُعلن عنه في 16 ديسمبر، أن مسار السياسات المناخية الأوروبية لم يعد محكومًا فقط بالاعتبارات البيئية والعلمية، بل أصبح خاضعًا بشكل متزايد لضغوط صناعية واقتصادية وسياسية، وهو ما أثار ردود فعل حادة من منظمات بيئية وحقوقية، على رأسها منظمة غرينبيس، في مقابل ترحيب واضح من شركات صناعة السيارات، كما نقلت صحف ووكالات دولية من بينها "فايننشيال تايمز" و"الغارديان" و"يورونيوز".

يذكر أن انبعاثات قطاع النقل لا تُعد مجرد أرقام تقنية، بل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحقوق أساسية، في مقدمتها الحق في الحياة والحق في الصحة والحق في بيئة سليمة، وهي حقوق معترف بها ضمنيًا وصراحة في أطر قانونية أوروبية ودولية، ما يجعل أي تراجع عن خفض الانبعاثات مسألة تتجاوز الاقتصاد إلى نطاق الالتزامات القانونية والأخلاقية للدول.

ويُظهر قرار المفوضية الأوروبية، وفق ما أعلنته، سماحًا لشركات صناعة السيارات بمواصلة إنتاج سيارات محركات الاحتراق الداخلي والسيارات الهجينة القابلة للشحن بعد عام 2035، شريطة خفض انبعاثات أساطيلها بنسبة 90%، وتعويض النسبة المتبقية البالغة 10% عبر تدابير بديلة مثل استخدام الفولاذ منخفض الكربون المصنّع أوروبيًا أو الوقود الإلكتروني أو الوقود الحيوي، وهو تعديل جوهري مقارنة بالالتزام السابق بالوصول إلى صفر انبعاثات من العادم.

يضعُ هذا التعديل علامة استفهام حول مدى التزام الاتحاد الأوروبي بمبدأ عدم التراجع في حماية البيئة، وهو مبدأ بات حاضرًا بقوة في النقاشات القانونية المعاصرة، خصوصًا في ظل تصاعد الدعاوى القضائية المناخية التي تُحمّل الحكومات مسؤولية التقاعس عن حماية المواطنين من أخطار التغير المناخي.

البيئة كحق أساسي

تحذّرُ منظمة "غرينبيس شرق آسيا" من أن هذا التراجع يُهدد بإبطاء التقدم العالمي نحو كهربة النقل والعمل المناخي، معتبرة أن الرسائل الصادرة من بروكسل لا تتوقف آثارها عند حدود أوروبا، بل تمتد إلى الأسواق والسياسات الصناعية حول العالم.

يقولُ المدير التنفيذي لمنظمة "غرينبيس ألمانيا"، مارتن كايزر، إن الخطة الجديدة تُعد "هدية عيد ميلاد مبكرة لمصنّعي السيارات الكهربائية الصينيين"، محذرًا من أنها تُعرّض حياة ووظائف ملايين الأوروبيين للخطر، وتحقق مكاسب قصيرة الأجل لصناعة السيارات على حساب مستقبل طويل الأمد للاقتصاد والبيئة وجودة الهواء.

ويشددُ كايزر على أن استمرار شركات السيارات الأوروبية في الاستثمار في محركات الاحتراق الداخلي لعقدٍ قادم يعني إهدار الأموال والتكنولوجيا في مسار "لم يعد له وجود"، بينما يتقدم العالم بخطى ثابتة نحو الكهرباء، لافتًا إلى أن هذه السياسة الصناعية، بحسب وصفه، تُنذر بكارثة على الوظائف وجودة الهواء والمناخ، وتُقوّض أي جهد لإعادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من قطاع النقل إلى مسار التخفيض.

يربط هذا الموقف بين السياسة الصناعية والحقوق البيئية، إذ يعتبر أن إبطاء التحول إلى السيارات الكهربائية لا يضر فقط بأهداف المناخ، بل ينعكس مباشرة على صحة السكان في المدن الأوروبية، حيث لا تزال انبعاثات النقل أحد أبرز مصادر تلوث الهواء.

ضغوط الصناعة

تأسفُ الناشطة في منظمة "غرينبيس سيول"، إيونسيو تشوي، لتراجع الاتحاد الأوروبي عن سياسة واضحة وراسخة منذ زمن طويل، معتبرة القرار "استسلامًا فعليًا لضغوط الصناعة"، ولا سيما شركات صناعة السيارات في ألمانيا وإيطاليا، على حساب الأهداف المشتركة المتمثلة في العمل المناخي وخفض الانبعاثات.

وتحذّر تشوي من أن القرار يرسل إشارات مضللة ومربكة إلى قطاع صناعة السيارات العالمي، ويُدخل حالة من عدم اليقين غير المبررة في مسار التحول الجاري بالفعل، مشيرة إلى أن الحكومة الكورية أعلنت رسميًا التزامها السياسي بالتخلص التدريجي من مركبات محركات الاحتراق الداخلي بحلول عام 2035 ضمن مساهمتها المحددة وطنيًا لعام 2030.

وتؤكد أن المطلوب من الحكومات والمجتمع الدولي ليس التراجع لحماية مصالح صناعية قصيرة النظر، بل اتخاذ قرارات سياسية واضحة ومسؤولة قادرة على دفع العمل المناخي والتحول الصناعي في آنٍ واحد، وهو طرح يضع الاعتبارات الحقوقية في مواجهة مباشرة مع حسابات السوق.

صراع الصناعة والمناخ

تشرحُ مسؤولة حملات المناخ والطاقة في منظمة "غرينبيس اليابان"، ماريكو شيوهاتا، أن الاتحاد الأوروبي حاول طويلًا تحقيق توازن بين حماية صناعة السيارات المحلية والالتزام بأهداف الحياد المناخي، معتبرة أن التعديل الأخير يعكس ضغوطًا من بعض قطاعات الصناعة، رغم استمرار جهات مؤثرة، مثل الحكومة الإسبانية، في الدفاع عن خطة التخلص التدريجي الأصلية بحلول عام 2035.

تحذّر شيوهاتا من أن القرار قد يضع الشركات الأوروبية الرائدة في ابتكار السيارات الكهربائية في وضع غير مواتٍ، رغم الاستثمارات الكبيرة التي ضختها أوروبا في هذا المجال، مؤكدة أن التوجه العام نحو الكهرباء لا يزال ثابتًا مع تفاقم أزمة المناخ.

وتدعو مصنّعي السيارات اليابانيين إلى عدم تفسير التعديل على أنه إشارة لإمكانية استمرار سيارات محركات الاحتراق الداخلي إلى أجل غير مسمى، بل إلى تسريع الابتكار التكنولوجي والتركيز على تحقيق انعدام الانبعاثات بأسرع وقت ممكن.

ترحيب الصناعة

على الجانب الآخر، نقلت صحيفة "فايننشيال تايمز" صورة مغايرة من داخل أروقة الصناعة، حيث رحّبت شركات صناعة السيارات بالتغييرات، معتبرة أن بروكسل أتاحت لها "مساحة للتنفس" لتحقيق أهدافها المناخية لعام 2030.

وتوضح الصحيفة البريطانية أن المفوضية الأوروبية سمحت لمصنّعي السيارات بحساب متوسط خفض الانبعاثات بين عامي 2030 و2032 لتحقيق هدف خفض بنسبة 55% مقارنة بمستويات عام 2021، كما خففت القواعد التي كانت تُلزم بالوصول إلى صفر انبعاثات من العادم بحلول عام 2035.

ونقلت "فايننشيال تايمز" عن نائب الرئيس التنفيذي للاتحاد الأوروبي، ستيفان سيجورنيه، تأكيده أن التكتل "لم يتخلَّ عن أي من أهداف خفض الانبعاثات"، بل أظهر "واقعية في ضوء الظروف الاقتصادية والجيوسياسية"، وهو خطاب يعكس محاولة رسم توازن بين الحقوق البيئية ومخاوف التنافسية الاقتصادية.

العدالة المناخية

من جانبها، تربط صحيفة "الغارديان" بين هذه التعديلات وضغوط مكثفة من قطاع صناعة السيارات وقادة دول أعضاء، من بينهم ألمانيا وإيطاليا، واصفة المقترحات بأنها أكبر تراجع للاتحاد عن سياساته الخضراء خلال السنوات الخمس الماضية.

وتنقل الصحيفة عن مفوض المناخ في الاتحاد الأوروبي، ووبكه هوكسترا، وصفه المقترحات بأنها "مربحة للطرفين" للمستهلكين والصناعة، في حين يرى معارضوها أنها ضربة لمسيرة أوروبا في مجال السيارات الكهربائية.

وانتقد الأمين العام لرابطة التنقل الكهربائي في أوروبا، كريس هيرون، هذا التوجه، معتبرًا أن "الوقت غير مناسب لأوروبا لكي تُضعف نفسها"، وأن السبيل الوحيد للحفاظ على القدرة التنافسية هو تعزيز السياسات الخضراء لا الخروج عنها.

واقترحت المفوضية أيضًا حوافز للسيارات الكهربائية الصغيرة المصنعة في الاتحاد الأوروبي، يتراوح سعرها بين 15 و20 ألف يورو، عبر تخفيضات في رسوم الطرق وخصومات في محطات الشحن، في محاولة لمعالجة مخاوف العدالة الاجتماعية وإمكانية وصول الأسر متوسطة الدخل إلى التنقل النظيف.

رحبت منظمة الاتحاد الأوروبي لهيئات حماية المستهلك BEUC، بهذه الخطوات، مشيرة إلى أن السيارات الهجينة التي يبلغ سعرها 40 ألف يورو "ليست خيارًا واقعيًا لمعظم الأسر"، وهو ما يعيد النقاش إلى البعد الحقوقي المتعلق بعدالة الانتقال الأخضر.

ضغوط الدول الأعضاء

كشفت "يورونيوز"، منذ أيام عن ضغوط تمارسها سبع دول أعضاء، من بينها ألمانيا وإيطاليا وبولندا، لإعادة النظر في حظر بيع سيارات الديزل والبنزين بحلول عام 2035، بحجة حماية القدرة التنافسية لصناعة السيارات الأوروبية.

تؤكدُ هذه الدول ضرورة اعتماد مبدأ "الحياد التكنولوجي"، بما يسمح بالاستمرار في استخدام السيارات الهجينة والوقود الحيوي والهيدروجين، مع الإقرار في الوقت ذاته بضرورة خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

ونقلت "يورونيوز" عن المديرة العامة لرابطة مصنعي السيارات الأوروبية، سيغريد دي فريس، قولها إن هدف 2035 "لم يعد واقعيًا" في ظل نقص البنية التحتية وتحديثات شبكة الكهرباء، منتقدة تركيز اللوائح الحالية على عرض السيارات الجديدة دون تحفيز كافٍ للطلب.

تضعُ هذه المواقف مجتمعة النقاش الأوروبي أمام اختبار حقوقي حقيقي: هل يمكن التوفيق بين حماية الوظائف والصناعة من جهة، والوفاء بالالتزامات المناخية وحماية الحقوق الأساسية للمواطنين من جهة أخرى؟

وتخلصُ منظمة "غرينبيس شرق آسيا" إلى دعوة الحكومات وشركات صناعة السيارات والشركاء الدوليين للتمسك بالتزاماتهم بخفض انبعاثات الكربون في قطاع النقل، معتبرة أن التحول إلى الكهرباء ليس خيارًا تقنيًا فحسب، بل ضرورة حقوقية لمواجهة أزمة المناخ وضمان انتقال عادل وتنافسي ومستدام للعمال والمجتمعات في أوروبا وآسيا والعالم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية