حين امتلأت المقابر وبقي الألم.. يوسف أبو حطب حفار قبور وشاهد على إبادة غزة
حين امتلأت المقابر وبقي الألم.. يوسف أبو حطب حفار قبور وشاهد على إبادة غزة
في مقبرة خان يونس، حيث تتلاصق القبور حتى تكاد تبتلع ممراتها الضيقة، يقف يوسف أبو حطب البالغ 65 عاما شاهدا حيا على واحدة من أقسى الفصول التي عاشها قطاع غزة في تاريخه الحديث، لم يعد المكان يتسع للأسماء، ولم تعد الشواهد قادرة على احتواء القصص، فتحولت المقبرة إلى سجل مفتوح للإبادة الجماعية التي أعادت تعريف الموت والحياة في آن واحد.
أبو حطب، الذي يعرف نفسه بحفار القبور، يدفع عربته الصغيرة بيدين مشققتين ومعول بسيط، متنقلا بين قبور بلا علامات واضحة، يؤدي مهمة تجاوزت كونها مهنة إلى دور إنساني ثقيل، وخلال عامين من الحرب على غزة، لم يعد يدفن الموتى فحسب، بل أصبح يحمل ذاكرة مدينة كاملة، ويشهد على حرب لم تترك للأحياء وقتا للحزن ولا للموتى حرمة الوداع، وفق شبكة "سما نيوز" الإخبارية.
مقبرة بلا متسع للأسماء
خلال عامي الإبادة، شارك أبو حطب في دفن ما يقارب 18000 جثمان في مقبرة خان يونس وحدها، وبعض هذه الجثامين كانت كاملة، لكن الغالبية كانت أشلاء ممزقة جُمعت على عجل من تحت الركام أو من الشوارع التي بقيت أياما بلا إسعاف ولا دفن، فالقبور، التي كانت مخصصة لشخص واحد، تحولت إلى حفر تضم عدة أجساد، أحيانا 10 أو 15 في قبر واحد، بسبب كثافة القتل وضيق المساحات.
في هذا المكان، لا تحكي الشواهد أسماء أو تواريخ، بل تحكي فواجع، توجد قبور كثيرة بلا علامات لأنها ضمت بقايا أجساد لم يعرف أصحابها، أو لأن الوقت لم يسمح بكتابة اسم أو تثبيت حجر، كل حفرة جديدة كانت تعني دفن قصة عائلة، وحلما انقطع، وطفولة لم تكتمل.
الموت تحت ضغط النار
يروي أبو حطب أن عمليات الدفن جرت في ظروف قاسية وغير مسبوقة، فالقصف المستمر على غزة، والخوف من الاستهداف، ونقص الأدوات والمواد الأساسية جعلت الدفن عملا محفوفا بالمخاطر، في كثير من الأحيان، لم يكن هناك حجر أو إسمنت أو بلاط، فكانت الأجساد توضع في أكياس بسيطة وتوارى التراب بأي وسيلة متاحة.
لم تقتصر عمليات الدفن على المقابر فقط، بل امتدت إلى ساحات المستشفيات ومحيطها، حيث اضطر العاملون إلى دفن الشهداء بشكل سريع بسبب تكدس الجثامين وانعدام القدرة على حفظها، أحيانا كانت المقابر الجماعية الخيار الوحيد، خاصة بعد المجازر الكبرى التي خلفت عشرات الضحايا دفعة واحدة.
أثر نفسي لا يندمل
رغم صموده الجسدي، ترك هذا العمل أثرا نفسيا عميقا على أبو حطب، فمشاهدة هذا الكم الهائل من الموت، ودفن أطفال ورضع وأشلاء بشرية، حمّله ألما لا يوصف، ويؤكد أن الإنسان لا يمكنه تخيل هذا المشهد ما لم يعيشه بنفسه، حين يدفن ابنا أو أخا أو قريبا، ثم يعود ليواجه آلاف الجثامين الأخرى.
بعد كل يوم دفن، كان يميل إلى العزلة، محاولا الاحتماء بصمته من ثقل الصور التي لا تغادر ذاكرته، ومع ذلك، واصل عمله بدافع إنساني خالص، مدركا أن الموتى يحتاجون إلى من يكرمهم بالدفن، حتى في أقسى الظروف.
شهادة انتشرت إلى العالم
قصة يوسف أبو حطب لم تبقَ حبيسة المقبرة، فخلال الحرب على غزة، انتشرت شهادته عبر منصات التواصل الاجتماعي، واعتبرها كثير من النشطاء واحدة من أبرز الشهادات الإنسانية التي توثق حجم الجرائم المرتكبة بحق سكان قطاع غزة، رأى كثيرون أن أبو حطب لم يكن مجرد حفار قبور، بل شاهداً حياً على الموت الجماعي، وأن ملامح وجهه المتعبة تختصر حجم المأساة النفسية التي عاشها الفلسطينيون.
وصف نشطاء غزة بأنها لم تعد مدينة بقدر ما أصبحت مقبرة كبيرة، في إشارة إلى أعداد القتلى الهائلة وضيق المساحات المخصصة للدفن، آخرون اعتبروا أن الموتى قتلوا أكثر من مرة، مرة بالقصف ومرة بحرمانهم من قبور تليق بإنسانيتهم.
استهداف المقابر وسرقة الجثامين
لم تسلم المقابر نفسها من ويلات الحرب، وخلال عامي الإبادة، تعرضت مقابر عدة للتجريف والتدمير في المناطق التي توغلت فيها القوات الإسرائيلية، وفق معطيات المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، تم تدمير 40 مقبرة من أصل 60، وسُرقت جثامين أكثر من 1000 فلسطيني، في انتهاك صارخ لحرمة الموتى.
إلى جانب ذلك، لا يزال أكثر من 10000 جثمان تحت الأنقاض، لم يتمكن الدفاع المدني من انتشالها بسبب ضعف الإمكانات واستمرار الحصار، هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم الخسائر البشرية، بل تكشف أيضا عن مأساة إنسانية مركبة تمتد حتى بعد الموت.
غزة بين الدفن والبقاء
في ظل امتلاء المقابر، باتت عملية الدفن نفسها تحديا يوميا، المساحات المتبقية شحيحة، والموارد شبه معدومة، والخطر حاضر في كل لحظة، ومع ذلك، يواصل أبو حطب وغيره من حفاري القبور أداء واجبهم، مدفوعين بإحساس عميق بالمسؤولية تجاه من فقدوا حياتهم.
المقبرة، التي امتلأت عن آخرها، لم تعد مجرد مكان للموت، بل تحولت إلى شهادة صامتة على حجم الجريمة، وعلى مدينة تُدفن كل يوم لكنها لا تزال تقف، متشبثة بالحياة رغم كل شيء.
بدأت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة في 8 أكتوبر 2023 بدعم أمريكي، واستمرت على مدار عامين، مخلفة أكثر من 70000 شهيد فلسطيني، وما يزيد على 171000 جريح، معظمهم من الأطفال والنساء، كما تسببت الحرب في دمار طال نحو 90 بالمئة من البنية التحتية المدنية، بما في ذلك المنازل والمستشفيات والمدارس والمقابر، ومع استمرار الحصار ومنع دخول المعدات والمواد الأساسية، واجه القطاع أزمة إنسانية غير مسبوقة، لم تتوقف عند حدود الحياة اليومية، بل امتدت إلى ما بعد الموت، حيث أصبح دفن الضحايا تحديا إضافيا في مدينة تحولت إلى شاهد مفتوح على واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.











