التاريخ يكرر نفسه.. الدب الروسي يعود لإفريقيا بعد تحديث سياساته

التاريخ يكرر نفسه.. الدب الروسي يعود لإفريقيا بعد تحديث سياساته

منذ سقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي خسرت روسيا حضورها الإفريقي في مجالات متعددة ولا سيما المجال العسكري. 

ومنذ ذلك الوقت تعمل جاهدة لاكتساب موسكو موطئ قدم في إفريقيا عن طريق توقيع اتفاقيات سياسية وعسكرية مع دول تباغتها انقلابات عسكرية بشكل غريب وسريع، تثار فيها بعض الاتهامات باضطلاع موسكو بدور في تلك الانقلابات. 

فمثلاً عقب الانقلاب في مالي عام 2020 والإطاحة بالرئيس "إبراهيم أبوبكر كيتا" من قبل العقيد "أسيمي غويتا" الذي حلف اليمين كرئيس للبلاد في مايو من العام الماضي، ليواجه على وقع هذا عقوبات إقليمية ودولية بعد أن قام بتمديد الجدول الزمني المقرر لإجراء انتخابات رئاسية.

الذي لم يقف صامتا إزاء فرض عقوبات، حيث اتخذ خطوات ضد القوات الأوروبية فقام بحظر طيران الطائرات العسكرية الألمانية في المجال الجوي وطرد السفير الفرنسي من البلاد وطالب بانسحاب القوات الدنماركية على الفور، واستعان بروسيا ومرتزقتها من مجموعة فاغنر عوضاً عن القوات الأوروبية.

نفس الأمر في بوركينا فاسو التي شهدت انقلاباً في يناير2022، حيث حذا الجيش فيها حذو المجلس العسكري في مالي ورفض تسليم السلطة إلى حكومة مدنية وتوجه أيضاً نحو روسيا.

بالإضافة إلى ما سبق، عززت موسكو تواجدها في دول القارة من خلال إرسال المرتزقة التابعين لمجموعة فاغنر الروسية، فحسبما أشارت تقارير إعلامية عديدة إلى أن مرتزقة فاغنر يعملون في جمهورية إفريقيا الوسطى، حيث أبرمت روسيا صفقة مع رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى تواديرا في عام 2018، وتم نشر ما يقدر بنحو 400 من جنود فاغنر في شمال جمهورية إفريقيا الوسطى.

وكنتيجة طبيعية لهذه السياسة الروسية في إفريقيا، يواصل الروس محاولة فرض أنفسهم على جميع مستويات السياسة والأمن في إفريقيا وخاصة الدول التي عصفت بها الانقلابات مؤخراً.

وفي مقال سابق على "جسور بوست" تحت اسم "وباء الانقلابات العسكرية يضرب دول غرب إفريقيا" ذكرنا أن دول غرب إفريقيا (تشاد وغينيا كوناكري وغينيا بيساو ومالي وبوركينا فاسو بالإضافة للسودان) قد شهدوا انقلابات عسكرية في العامين الماضيين، وبينهم جميعاً قواسم مشتركة، أهم هذه القواسم أن معظم القادة العسكريين الذين قاموا بهذه الانقلابات قد حصلوا على تدريب عسكري في روسيا من قبل.

الجدير بالذكر هنا، أن روسيا تنتهج سياسة تشبه تلك التي كانت تنتهجها في عصر الاتحاد السوفيتي (لكن مع التحديث)  فقد كانت في ذلك الوقت تحاول إظهار نفسها كمساعد للدول الإفريقية وحركات التحرر الوطني لنوال الاستقلال من المستعمرين الغربيين. والآن تنتهج سياسة مشابهة عن طريق تقديم نفسها للدول الإفريقية كوسيط أمني لمواجهة "التدخل الغربي" وتصدير نفسها في صورة "المدافع عن إفريقيا" في النزاعات وفي معركتها ضد الإرهاب، الهدف الذي يبدو أن الدول الغربية فشلت في تحقيقه.

كما استطاعت روسيا خلال العقدين الماضيين لعب دور هام في إفريقيا في مجال الطاقة النووية، حيث قامت بإبرام اتفاقيات في مجال الطاقة النووية وتصدير الأسلحة، لتصبح روسيا في الوقت الحالي أكبر مصدر للأسلحة إلى القارة الإفريقية.

وعند النظر في التقرير السنوي الصادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري) عام 2020، نجد أن الصادرات العسكرية الروسية مثلت 18٪ من إجمالي صادرات روسيا من الأسلحة في الفترة ما بين عامي 2016 و2020.

كانت أولى صفقات الأسلحة الروسية إلى إفريقيا في إبريل 2020 حين أعلنت شركة "روسوبورون إكسبورت"، وهي الشركة الروسية الوحيدة التابعة للدولة في مجال تصدير الأسلحة، عن بيع زوارق هجومية روسية الصنع إلى دولة ما في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء لم يُفصح عن اسمها، وقبل الإعلان عن هذه الصفقة بشهور وتحديدا في العام 2019 عُقد أول منتدى اقتصادي بين روسيا وإفريقيا في منتجع سوتشي الروسي بحضور قادة وزعماء وشخصيات أفارقة رفيعة المستوى.

أعدت روسيا هذا الحدث لإلقاء التركيز على العلاقات مع إفريقيا، استطاعت روسيا حينها أن تُظهر نفسها كحليف للعديد من الدول الإفريقية التي كانت تحارب حركات تمرد خاصة في مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو وموريتانيا (نفس الدول التي حدث فيها انقلابات في ما بعد) حيث ناشدت هذه الدول موسكو عام 2018 مساعدتها في قتال تنظيمي داعش والقاعدة.

أيضاً لم تتوقف مساعي روسيا في تعزيز تواجدها في إفريقيا على الجزء العسكري فقط، بل سعت إلى بيع التكنولوجيا النووية لعدد من البلدان الإفريقية مثل زامبيا ورواندا وإثيوبيا ومصر ونيجيريا حيث تبني موسكو محطات للطاقة النووية، على سبيل المثال محطة الضبعة النووية في مصر. 

بناءً على ما تم ذكره مسبقاً يظهر تساؤل طارحاً نفسه: لما إفريقيا؟ ما هي أهميتها بالنسبة لموسكو؟ 

باختصار هناك ثلاث عوامل هي الأهم جعلت روسيا تتجه إلى إفريقيا، الأول اقتصادي فإفريقيا غنية بالموارد، وخاصة اليورانيوم، والمعادن الثمينة، عطفاً على كون الغالبية العظمة من دولها دول صراع، ما يعني سوقاً خصباً للسلاح الروسي، أما العامل الثاني فهو موقعها الجغرافي ومستقبلها الاقتصادي في قلب العالم فهي قارة متصلة تقريباً بكل خطوط التجارة العالمية وفيها واحد من أهم الممرات الملاحية قناة السويس، عطفاً على السوق الإفريقية التي تتوقع لها المنظمات الاقتصادية نمواً متسارع لتصل الى نحو 5 تريليونات دولار في عام 2050، الأمر الذي يجعلها بوابة روسيا نحو المستقبل، أما العامل الثالث هو منافسة الغرب في إفريقيا واكتساب مناطق نفوذ جديدة تعزز من القوة والهيمنة الروسية. 

إجمالاً.. مما يتضح في الواقع ويلمع في الأفق، لن تكتفي روسيا بهذا القدر من التوغل وبسط النفوذ في إفريقيا، بل ستسعى لما هو أكبر من ذلك، فكل خطوة تخطوها روسيا في القارة الإفريقية تزيد من قوتها الاقتصادية والسياسية وتجعل منها دولة عظمى تناطح الولايات المتحدة والمعسكر الغربي، وخصوصاً في الآونة الأخيرة بعدما حشدت موسكو قواتها علي حدود أوكرانيا استعداداً لغزوها، حيث إن التواجد في إفريقيا بشكل أكبر يعطي موسكو هامش مناورة استراتيجياً أعلى، تهدد به أمريكا والدول الأوروبية لأن وجدها يهدد المصالح الغربية في القارة، وبيعها السلاح لدول القارة يمنحها قوة اقتصادية تمكنها من شن حرب وغزو أوكرانيا.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية