عيادات الحجاب في إيران.. قمع النساء في ظل «عباءة العلاج»
عيادات الحجاب في إيران.. قمع النساء في ظل «عباءة العلاج»
في خطوة مثيرة للجدل، أعلنت السلطات الإيرانية عن خطط لإنشاء عيادة في طهران تركز على "علاج" النساء اللائي يخالفن قوانين الحجاب الإلزامي، وهو مشروع يُنظر إليه على نطاق واسع كإجراء قمعي موجه ضد حقوق المرأة وحرياتها الأساسية في إيران.
تعكس هذه الخطوة استمرار سياسة إيران في فرض السيطرة على سلوكيات المواطنات، وتأتي في وقت تشهد فيه إيران تحديات سياسية واجتماعية متزايدة، خاصة بين الأجيال الجديدة من النساء اللاتي يواجهن صعوبة في التوفيق بين القيم التقليدية والواقع المعاصر.
وقالت مهري طالبي دارستاني، رئيسة قسم المرأة والأسرة في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن العيادة ستقدم علاجات تستهدف النساء من فئة الشباب والمراهقين، بهدف تصحيح ما يُوصف بـ"الاضطرابات الاجتماعية" ومع ذلك، يرى مراقبون أن هذا المبرر الطبي هو في الحقيقة غطاء لقمع النساء اللائي يعبرن عن رفضهن لقوانين الحجاب، التي تُفرض منذ ثورة عام 1979.
يأتي هذا المشروع في أعقاب احتجاجات عارمة شهدتها البلاد في 2022 إثر وفاة الشابة مهسا أميني البالغة من العمر 22 عامًا أثناء احتجازها لدى "شرطة الأخلاق"، تلك الحادثة تسببت في اندلاع موجة من الغضب الشعبي، ما أدى إلى مقتل ما يزيد على 500 شخص واعتقال آلاف آخرين، حسب ما أفادت منظمة العفو الدولية، لكن اللافت أن السلطات لم تكتفِ بالرد القمعي التقليدي بل سعت الآن لاستخدام أدوات علم النفس لتعزيز سطوتها.
وأعربت العديد من منظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، عن قلقها البالغ إزاء تصنيف معارضة الحجاب كمرض نفسي، مشيرة إلى أن السلطات الإيرانية كثّفت مؤخرًا استخدامها لمؤسسات الصحة النفسية في قمع المعارضين، مثل هذه الإجراءات، كما يصفها تقرير صادر عن مركز "هرانا" لحقوق الإنسان، تشكل انتهاكًا للقوانين الدولية التي تحظر إساءة استخدام الطب النفسي لتحقيق أغراض سياسية.
زيادة حالات خلع الحجاب
بالمقارنة مع البيانات السابقة، تُظهر التقارير أن عدد النساء الإيرانيات اللاتي اخترن خلع الحجاب في الأماكن العامة قد زاد بشكل ملحوظ في الأعوام الأخيرة، وفقًا لتقرير نشره مركز الإحصاء الإيراني عام 2022، ما يقارب 15% من النساء في المدن الكبرى لم يلتزمن بقوانين الحجاب بشكل كامل، بينما تشير استطلاعات أخرى، منها تقرير نشرته صحيفة "اعتماد"، إلى أن نسبة الشابات اللاتي يرفضن الحجاب بلغت أكثر من 60% في بعض المناطق الحضرية.
ومع هذا التصعيد، تتزايد الأدلة على استخدام السلطات الإيرانية للمستشفيات النفسية كسلاح ضد المعارضة، حيث وثقت تقارير حقوقية، مثل التقرير الصادر عن منظمة "دادبان" الإيرانية القانونية، عشرات الحالات التي تم فيها تحويل موقوفين إلى مستشفيات نفسية قسرًا بتهم مثل "الإخلال بالنظام العام" أو "التحريض ضد الأمن القومي" هذا التوجه يُعيد إلى الأذهان ممارسات مشابهة خلال القرن العشرين في الأنظمة الاستبدادية، حيث استُخدمت الصحة النفسية كوسيلة لتصفية الحسابات مع المعارضين.
ومن بين الحالات الأخيرة التي سلط الإعلام الضوء عليها، اعتقال طالبة جامعية في طهران بعد خلعها ملابسها في الحرم الجامعي احتجاجًا على اعتداء رجال الأمن عليها بسبب عدم الالتزام بالحجاب، الطالبة نُقلت إلى مستشفى للأمراض النفسية دون علم أهلها، وفقًا لمنظمة العفو الدولية، مثل هذه الحوادث تعكس التوتر المتزايد بين النظام وجيل الشباب الذي بات أكثر جرأة في تحدي قواعد الدولة القمعية.
التعامل مع الحركات الاحتجاجية
وتكشف هذه التطورات النقاب عن استراتيجيات النظام في التعامل مع الحركات الاحتجاجية التي رفعت شعار "امرأة، حياة، حرية"، فبينما يواجه النظام ضغوطًا داخلية وخارجية متزايدة، يلجأ إلى توظيف أدوات قمع مبتكرة في محاولة للسيطرة على مجتمع يعاني من حالة احتقان شديدة، وفقًا لمحللين سياسيين، فإن هذا المشروع الأخير لإنشاء عيادة الحجاب يعكس فقدان النظام للثقة في أدواته التقليدية، ما يدفعه إلى تبني أساليب نفسية لترهيب المعارضين.
تُثار تساؤلات جادة حول مشروعية إنشاء مثل هذه المراكز، المرصد القانوني "دادبان" أوضح في تقريره الأخير أن تحويل النساء إلى هذه العيادات بناءً على قرارات قضائية يُعد انتهاكًا صارخًا للقوانين الجنائية في إيران، كما أشار إلى أن إضافة عقوبات جديدة، مثل الحضور القسري لجلسات العلاج النفسي، تتطلب تعديل قانون العقوبات، وهو أمر لم يتم حتى الآن.
وفي سياق متصل، أصدرت 4 جمعيات للطب النفسي في إيران بيانًا مشتركًا عام 2023 تدين فيه هذه السياسات، ووصفتها بأنها "تشخيصات غير علمية" تُستخدم لتبرير عقوبات غير قانونية الجمعية اعتبرت أن هذه السياسات تشكل إساءة لمهنة الطب وتتنافى مع المبادئ الأخلاقية التي ترفض استغلال العلم لأغراض سياسية.
ويرى محللون أن المشروع يحمل دلالات أوسع تتجاوز مجرد السيطرة على النساء، فهو يعكس محاولة النظام لإعادة فرض السيطرة على المجتمع الإيراني الذي يعاني من تصدعات عميقة، سواء على مستوى الهوية أو العلاقة بين الأجيال، مع تزايد الوعي السياسي والاجتماعي بين الشباب، تبدو السلطات عاجزة عن فهم متطلبات المرحلة، ما يدفعها نحو مزيد من العزلة محليًا ودوليًا.
وفاقمت المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية من أزمة النظام، فوفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2023، يعاني الاقتصاد الإيراني من انكماش بنسبة 1.5% مع ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب إلى 27%، مثل هذه الأوضاع تزيد من حدة الاحتقان وتدفع المزيد من الشباب، خاصة النساء، للتعبير عن غضبهم تجاه السياسات التقييدية.
على المستوى الدولي، أثار المشروع انتقادات واسعة، الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية أصدرت بيانات تدين الخطوة، مشيرة إلى أنها تتعارض مع القيم العالمية لحقوق الإنسان كما دعت الأمم المتحدة إيران إلى مراجعة سياساتها القمعية ضد النساء وضمان احترام الحريات الفردية.
ويرى مراقبون أن مشروع "عيادة الحجاب" يعكس مأزقًا مزدوجًا يواجهه النظام الإيراني، فمن جهة، يسعى للحفاظ على هيبته وسط مجتمع يشهد تحولات عميقة، ومن جهة أخرى، يواجه ضغوطًا خارجية متزايدة بسبب انتهاكاته الحقوقية، وبينما يواصل الشباب الإيراني تحدي القوانين القمعية، يبقى السؤال مفتوحًا حول مدى قدرة النظام على احتواء هذه التحولات دون أن يضطر لإجراء إصلاحات جذرية في بنيته السياسية والاجتماعية.
تحديات هائلة
لا تزال حقوق المرأة تُواجه تحديات هائلة على الرغم من الضغوط المحلية والدولية في إيران، وتتمثل أبرز الانتهاكات في القوانين التمييزية والسياسات القمعية التي تقيد حريات النساء في المجتمع، على رأسها فرض الحجاب الإجباري منذ عام 1979، وهو قانون يفرض على النساء ارتداء الحجاب الكامل في الأماكن العامة، هذا القانون لا يقتصر فقط على مظهر المرأة، بل يتعداه إلى فرض قيود على مشاركتها في الحياة العامة، بما في ذلك العمل والتعليم. في الأعوام الأخيرة، تصاعدت الدعوات لوقف هذا القانون وسط احتجاجات عارمة من نساء إيرانيات، مثل حركة "الجمهورية الإسلامية" التي ظهرت في شوارع طهران في عام 2017.
على الصعيد القانوني، تتعرض النساء الإيرانيات لحالات تمييز جسيمة في مجالات متعددة، مثل الزواج، والطلاق، والتوريث، قوانين الأسرة في إيران تُعتبر تمييزية بشدة، حيث يمكن للرجال الزواج من عدة نساء، بينما لا يُسمح للنساء بذلك، كما تفتقر النساء في إيران إلى الحق في الطلاق أو حضانة الأطفال بشكل مستقل، وهذه القوانين تُعتبر غير متوافقة مع حقوق الإنسان الدولية.
وسلط التقرير الصادر عن بعثة التحقيق الخاصة بالأمم المتحدة حول إيران في عام 2023، الضوء على انتهاك حقوق النساء في سياق الاحتجاجات الأخيرة ضد النظام.
وأشار التقرير إلى استخدام السلطات الإيرانية للعنف والقمع ضد النساء اللائي يطالبن بحقوقهن، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية، والتعذيب، والعنف الجنسي، ما يشير إلى استمرار ما يُعتبر "اضطهادًا جنسيًا" و"تمييزًا سياسيًا" موجهًا ضد النساء، من أبرز الأحداث كان مقتل "مهسا أميني" في سبتمبر 2022 بعد اعتقالها من قبل "شرطة الأخلاق" بتهمة خرقها قوانين الحجاب، وهو الحدث الذي أشعل موجة من الاحتجاجات المطالبة بحقوق المرأة وحريتها في اتخاذ قراراتها الشخصية.
انتهاك خطير لحقوق النساء
وقال الخبير الحقوقي محمود الحمداني، إن إجراء يعتبره العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان انتهاكًا خطيرًا لحقوق النساء الأساسية، هذه العيادات، التي تم تقديمها على أنها "مراكز علاج نفسي"، لا تعالج في الواقع أي اضطرابات نفسية فعلية، بل تهدف إلى معاقبة النساء اللاتي يتحدين النظام القمعي، ويُنظر إليها كأداة للتحكم في حرية النساء وممارسة الضغط النفسي عليهن، كما أن حرية الرأي والتعبير وحرية المعتقد والحق في الاختيار من المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان التي تكفلها جميع الاتفاقيات الدولية.
وتابع الحمداني، في تصريحات لـ"جسور بوست"، الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية، التي وقع عليها العديد من الدول بما في ذلك إيران، تضمن حق الأفراد في حرية التفكير والاعتقاد، لكن في إيران، يُنظر إلى رفض الحجاب الإلزامي على أنه تحدٍ للنظام الحاكم، ما يعرض النساء اللاتي يرفضنه للملاحقة القانونية والاجتماعية، إدخال هذه "العيادات النفسية" لتكون بديلاً عن العقوبات التقليدية مثل الغرامات أو السجن، يعدّ تلاعبًا بنظام الصحة النفسية لاستخدامها كأداة للضغط النفسي وفرض الامتثال.
وأكد الخبير الحقوقي أن هذه الإجراءات تعتبر انتهاكًا لحقوق النساء في التعبير عن أنفسهن واختيارهن الشخصي، أحد المبادئ الأساسية التي تدافع عنها المنظمات الدولية لحقوق الإنسان هو حق الفرد في تقرير مصيره، بما في ذلك الحق في حرية اللباس وحرية ممارسة معتقداته الدينية والثقافية، بفرض الحجاب على النساء، يعارض النظام الإيراني هذه المبادئ الأساسية ويجبر النساء على اتخاذ خيارات تتناقض مع معتقداتهن الشخصية، من الواضح أن السلطات الإيرانية تحاول تحويل القضايا السياسية والاجتماعية إلى قضايا نفسية، عبر تصوير النساء اللاتي يرفضن الحجاب كأنهن مصابات باضطرابات نفسية.
وقال إن هذا التوجه يعكس انحرافًا في المفاهيم الطبية، حيث يتم تحويل النظام الصحي إلى أداة قمع سياسية، هذه العيادات لا تهدف إلى علاج أي مرض حقيقي، بل إلى تكريس سيطرة الدولة على الأفراد وإجبار النساء على التكيف مع القيم السائدة التي تفرضها الحكومة.
وأتم، تتعرض النساء الإيرانيات لضغوط اجتماعية وقانونية شديدة جراء رفضهن لحجابهن، وهو ما يعكس قمعًا ممنهجًا لحقوقهن الأساسية، بينما تدعي الحكومة أنها تسعى إلى حماية القيم الإسلامية، فإن الواقع يثبت أن هذا الإجراء هو في جوهره محاولة للسيطرة على حرية النساء في اتخاذ قراراتهن الخاصة في حياتهن اليومية.العيادات النفسية أداة قمع
وقال الأكاديمي طه أبو الحسن، يشكل تصنيف معارضة ارتداء الحجاب في إيران كحالة نفسية خطوة مثيرة للجدل وغير مهنية، إذ يعكس تجاهلاً للمعايير الأخلاقية والعلمية في مجال الصحة النفسية، في الوقت الذي يُعتبر فيه الدعم النفسي والعلاج النفسي من الأدوات الأساسية لمساعدة الأفراد في التعامل مع مشاعرهم وصراعاتهم النفسية، فإن استخدام هذه العيادات كأداة للقمع الاجتماعي لا يتماشى مع الممارسات الطبية الصحيحة ولا يحقق الهدف المنشود من الرعاية الصحية النفسية.
وتابع أبو الحسن، في تصريحات لـ"جسور بوست"، العديد من الدراسات النفسية تشير إلى أن المعارضة لأي شكل من أشكال القمع المجتمعي، بما في ذلك القوانين المتعلقة بالحجاب، لا تندرج ضمن الاضطرابات النفسية، بل هي تعبير عن رغبة الإنسان في الاستقلال والحرية الشخصية، وفقاً لنظريات علم النفس الاجتماعي، فإن مطالبة الأفراد بالامتثال لقيم معينة ضد رغباتهم يمكن أن تؤدي إلى التوترات النفسية، ولكن هذا لا يعني أن الممارسات الاجتماعية المتعارضة مع تلك القيم تعتبر اضطراباً نفسياً، على العكس من ذلك، فإن فرض قيود على حرية التعبير الشخصي قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق، وهو ما قد يزيد من الأعباء النفسية للأفراد.
وقال إنه من خلال تطبيق هذه السياسات، مثل تحويل النساء اللاتي يرفضن ارتداء الحجاب إلى العيادات النفسية، فإن الحكومة الإيرانية تُظهر محاولة لتشخيص مشاعر المعارضين على أنها مشاكل نفسية، وهو أمر يشوبه الكثير من التحريف في مفهوم الصحة النفسية، وفقاً لجمعيات الصحة النفسية العالمية مثل الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA)، فإن تحديد مخالفات القيم الاجتماعية كأمراض نفسية يتناقض مع المعايير الأخلاقية والتشخيصية لعلم النفس. بل إن هذه السياسات تندرج تحت خانة التدخلات التي تهدف إلى تغييب حرية الإرادة الشخصية لمصلحة السلطة السياسية.
وتابع، يبدو أن السلطات الإيرانية تستغل هذه العيادات النفسية لتأديب النساء عبر تقنيات لا تمت للطب النفسي بصلة، مثل التقارير النفسية القسرية التي تفرض على الأفراد زيارة هذه العيادات بعد انتهاك قانون الحجاب، الدراسات النفسية تؤكد أن الانتهاك لحقوق الأفراد والحريات الشخصية يمكن أن يكون له آثار نفسية سلبية عميقة، ومنها الشعور بالرفض الاجتماعي أو حتى الهويات الاجتماعية المشتتة، إلا أن معالجة هذه القضايا يتطلب دعماً متفهما ومعاملة إنسانية بدلاً من العلاج القسري أو التصنيف المرضي.
وقال أبو الحسن، إن الأبحاث تشير إلى أن ربط الحجاب بأمور نفسية غير علمي ولا يتوافق مع الأدلة العلمية المتاحة حول الاضطرابات النفسية، فالأمر الذي قد يراه البعض تطوراً للانضباط الاجتماعي، هو في حقيقة الأمر انتهاك لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن الصحة النفسية تعتمد في جزء كبير منها على بيئة خالية من القمع، وأن التدخلات النفسية القسرية في مثل هذه الحالات لا تساهم في أي علاج حقيقي للمشكلة، بل قد تزيد من معاناة الأشخاص الذين يعانون من هذه السياسات.
وأتم، فإن معالجة قضايا مثل الحجاب الإلزامي لا ينبغي أن تتم من خلال القمع أو الممارسات القسرية، بل يجب أن تُستند إلى الحوار المفتوح والاحترام الكامل لحقوق الأفراد، بما في ذلك حرية التعبير والحرية الدينية، ووفقاً للمعايير الدولية التي تهدف إلى ضمان حقوق الإنسان وحمايتها.