تراجع إيران عن تشديد الحجاب تحت ضغوط شعبية ودولية.. مناورة تكتيكية أم تغيير حقيقي؟
تراجع إيران عن تشديد الحجاب تحت ضغوط شعبية ودولية.. مناورة تكتيكية أم تغيير حقيقي؟
تشهد إيران تعديلات جديدة على قانون "العفاف والحجاب"، تقترب من إلغاء دوريات شرطة الآداب التي أثارت أزمات حقوقية واسعة، واستبدالها بعقوبات مالية، وذلك في ظل أزمة اقتصادية متفاقمة، وتصاعد الغضب الشعبي، إلى جانب ضغوط أمريكية وغربية متزايدة على طهران بسبب برنامجها النووي.
ويرى خبراء تحدثوا إلى "جسور بوست" أن هذه التعديلات ليست سوى تنازلات تكتيكية فرضتها الضغوط الشعبية والدولية، لكنها تحمل في طياتها تكلفة مالية جديدة ستُفرض على النساء عبر العقوبات، بدلاً من القمع المباشر عبر الأجهزة الأمنية، ويستبعد هؤلاء الخبراء أن تؤدي هذه التعديلات إلى تهدئة الاحتقان الشعبي، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية والحقوقية المتردية.
في 19 مارس الجاري، أعلن رئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قاليباف، عبر منصة "إكس"، أن التعديلات الجديدة على قانون "العفاف والحجاب" تشمل الإلغاء الكامل لدوريات "الإرشاد" أو ما يُعرف بشرطة الآداب، مشيرًا إلى أن الهدف هو تغيير آليات التعامل مع قضية الحجاب لتحقيق توافق عام حولها.
منذ الثورة الإسلامية عام 1979، فُرض الحجاب على النساء في الأماكن العامة، وأصبح أحد العوامل الرئيسية للاحتجاجات المتكررة، لا سيما عقب وفاة مهسا أميني في سبتمبر 2022 أثناء احتجازها لدى شرطة الآداب، بزعم انتهاكها قواعد اللباس.
وأدت وفاتها إلى احتجاجات واسعة استمرت لأشهر، وأسفرت عن مقتل أكثر من 500 شخص واعتقال أكثر من 22 ألفًا. كما دفعت العديد من النساء إلى تحدي القوانين من خلال ارتداء الحجاب بشكل غير تقليدي أو خلعه تماما.
في 18 ديسمبر 2024، طلب البرلمان الإيراني تعديل مشروع قانون "العفاف والحجاب"، رغم موافقة الحكومة المبدئية عليه في سبتمبر 2023 لتعزيز ثقافة الحجاب، ورغم العقوبات المشددة التي يفرضها القانون، والتي تشمل غرامات مالية وأحكام سجن تصل لسنوات، جاء طلب التعديل استجابةً لانتقادات حقوقية متزايدة.
في 10 ديسمبر، وصفت منظمة العفو الدولية الحجاب الإجباري بأنه "أداة لقمع المرأة"، وحذرت من تداعياته، بينما أعرب خبراء أمميون عن قلقهم من أثر القانون على حقوق النساء والفتيات، وبحسب منظمة "هرانا"، واجهت أكثر من 30 ألف امرأة إجراءات قانونية في 2024 بسبب رفضهن ارتداء الحجاب، وفق بيانات رسمية.
في سياق متصل، نقلت وكالة "إسنا" عن شهرام دابيري، نائب الرئيس للشؤون البرلمانية، أن البرلمان طلب عدم رفع قانون العفاف والحجاب إلى الحكومة بصيغته الحالية، بينما دعا رئيس مجلس الشورى إلى تعديله دون الكشف عن تفاصيل التعديلات المطلوبة.
في يناير 2025، أعلن البرلمان الإيراني تأجيل تنفيذ القانون بقرار من المجلس الأعلى للأمن القومي، انتظارًا لمقترحات الحكومة، وسط ضغوط من النواب المحافظين للإسراع في تطبيقه.
وأكد المتحدث باسم هيئة رئاسة البرلمان، عباس كودرزي، أن القانون، رغم موافقة مجلس صيانة الدستور عليه، تأجل تنفيذه بناءً على طلب الأمن القومي، مشيرًا إلى أنه سيُعلن في الوقت المناسب بعد الوصول إلى توافق حول النسخة المعدلة.
في وقت لاحق، نقلت وسائل إعلام إيرانية أن الرئيس مسعود بزشكيان أحال مشروع القانون إلى المجلس الأعلى للأمن القومي لمنع تنفيذه، بعد طلب البرلمان إجراء تعديلات عليه. ويُعرف مجلس صيانة الدستور، الذي يختار المرشد علي خامنئي نصف أعضائه الـ12، بدوره في الفصل بين الحكومة والبرلمان، وحال فشل حل النزاع، يُحال الأمر إلى مجلس تشخيص مصلحة النظام، لكن الحكومة فضّلت تدخل المجلس الأعلى للأمن القومي بسبب تداعيات القانون على الاستقرار الداخلي.
مواقف متباينة
في 23 يناير 2025، أكد نائب الرئيس الإيراني، محمد جواد ظريف، خلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس، أن الحكومة قررت تأجيل تنفيذ القانون "لتجنب الضغط على النساء"، مشيرًا إلى أن الرئيس بزشكيان ومسؤولين آخرين وافقوا على عدم تطبيقه بصرامة.
وفي 6 مارس، تمسّك الرئيس بزشكيان بموقفه الرافض لتنفيذ القانون، حيث صرّح نائبه للشؤون التنفيذية، محمد جعفر قائم بناه، عبر منصة "إكس"، بأن "الرئيس لا يرى إمكانية لتنفيذ القانون بسبب المشكلات التي يسببها للناس".
في المقابل، طالب 209 نواب من أصل 290 في البرلمان الإيراني الحكومة بتنفيذ القانون، وفق ما أظهرته عريضة وُقعت داخل البرلمان، ما يعكس استمرار الانقسام داخل أروقة السلطة حول مستقبل قانون "العفاف والحجاب".
رغم الحديث عن تعديلات تهدف إلى تخفيف الضغوط على النساء في إيران، فما يزال الواقع يشهد تشديدًا مستمرًا في الإجراءات. فقد أعلنت السلطة القضائية، يوم الخميس، عن ملاحقات قانونية ضد عدد من النساء لمشاركتهن في حفل في طهران، بدعوى انتهاك قواعد اللباس الصارمة.
وذكر موقع "ميزان أونلاين" التابع للسلطة القضائية أن "عددًا من النساء حضرن الحفل الخاص بتوزيع جوائز التصميم الداخلي الإيراني في المكتبة الوطنية في 20 يناير الماضي دون ارتداء الحجاب الإلزامي، ما اعتُبر انتهاكًا للمعايير الأخلاقية والقانونية، وأثار ردود فعل رسمية.
وأضاف الموقع أن مكتب المدعي العام في طهران قرر اتخاذ إجراءات ضد جميع المنظمين والمشاركين الذين خالفوا القوانين خلال الحفل.
في 6 مارس الجاري، أصدرت محكمة إيرانية حكمًا بجلد المغني مهدي يراحي 74 جلدة بسبب أدائه أغنية تدعو النساء إلى خلع الحجاب. وبعد تنفيذ العقوبة، أكد يراحي استعداده لدفع "ثمن الحرية"، مشددًا على تمسكه بمواقفه، وكان قد أُفرج عنه سابقًا بعد اعتقاله عام 2023 بسبب دعمه لاحتجاجات مهسا أميني.
وفي منتصف فبراير الماضي، أعلنت عائلة مينا سلطاني، والدة المتظاهر شاهريار محمدي الذي قُتل خلال احتجاجات 2022، أنها ستخضع للمحاكمة بتهم تتعلق بانتهاك قوانين الحجاب الإلزامي والدعاية ضد النظام.
كما اعتقلت السلطات الإيرانية المغنية الشهيرة باراستو أحمدي أواخر 2024، بعد أدائها حفلة غنائية مرتدية فستانًا مكشوفًا دون حجاب، في تحدٍّ واضح للقيود الصارمة، وفي 29 أغسطس 2024، وُجهت تهم إلى المخرجة رخشان بني اعتماد وابنتها الممثلة باران كوثري لظهورهما في مكان عام دون حجاب، وفقًا لما أفاد به موقع "ميزان أونلاين.
انتقادات دولية
على الصعيد الدولي، دعت ماي ساتو، المقررة الخاصة لحقوق الإنسان في إيران، في 13 أكتوبر 2024، السلطات الإيرانية إلى إلغاء قوانين الحجاب الإجباري، مؤكدة أن هذه السياسات تتناقض مع التزامات إيران الدولية تجاه حقوق الإنسان.
وتصنّف تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية إيران ضمن أكثر الدول انتهاكًا لحقوق المرأة، حيث تفرض قيودًا صارمة على حرية النساء، ووفقًا لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2023، جاءت إيران في المرتبة 143 من أصل 146 دولة في مؤشر الفجوة بين الجنسين، ما يعكس مدى التمييز الذي تواجهه النساء.
تُضاف هذه التوترات السياسية والاجتماعية إلى أزمة اقتصادية خانقة تعاني منها إيران منذ عام 2018، عندما انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وأعادت فرض عقوبات مشددة ضمن سياسة "الضغط الأقصي.
وقبل أيام، حذّر علي نيكبخت، رئيس مجلس إدارة نقابة محطات توليد الكهرباء، من أن العجز في الكهرباء سيصل هذا العام إلى 25 ألف ميغاواط، ما يعني أن وزارة الطاقة لن تتمكن من تلبية ثلث احتياجات البلاد من الكهرباء. وأرجع الأزمة إلى نقص السيولة، ما يعوق عمليات الصيانة والتحديث لمحطات الطاقة.
بدوره، أكد محمد جوانبخت، نائب وزير الطاقة لشؤون المياه، أن مخزون المياه خلف السدود الإيرانية وصل إلى مستويات حرجة، ما سيؤدي إلى فرض تقنين مبكر للمياه حتى قبل دخول فصل الصيف.
يعاني الإيرانيون من تدني الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة، إذ كشفت وكالة "إيلنا" العمالية أن الحد الأدنى اللازم لتغطية نفقات معيشة أسرة عاملة في إيران يُقدر بنحو 35 مليونًا و857 ألف تومان (حوالي 400 دولار)، في حين لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور 7 ملايين و400 ألف تومان (نحو 85 دولارًا)، ما يكفي بالكاد لتغطية 9.12 أيام من الشهر.
وتستمر موجات الغلاء في مختلف القطاعات، حيث أعلن مجلس مدينة طهران عن زيادة متوقعة بنسبة 37% في أجور سيارات الأجرة لعام 2025، والتي ستدخل حيز التنفيذ في مايو المقبل.
في السياق ذاته، كشف رضا كنكري، رئيس اتحاد تجار المواد الغذائية، أن أسعار السلع الأساسية مثل الشاي، الحبوب، والأرز، ارتفعت بنسبة 100% خلال هذا العام، ما أدى إلى تراجع مبيعات المواد الغذائية بنسبة 35%، حيث اضطر المواطنون إلى تقليص إنفاقهم لمواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وفق ما نقلته "إيران إنترناشيونال".
ضغوط تتزايد
بدوره يرى المحلل السياسي المتخصص في الشأن الإيراني، وجدان عفراوي، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن النظام الإيراني أبدى تراجعًا ملحوظًا في تشديده على مسألة الحجاب، مع تجميد فعلي لدور شرطة الأخلاق، ويعزو هذا التغير إلى عدة عوامل متراكمة، أبرزها الصدام الحاد بين النظام والمرأة الإيرانية منذ اندلاع احتجاجات سبتمبر 2022.
ويشير عفراوي إلى أن "خلع الحجاب بات رمزًا للتمرد والمقاومة، حيث لم تفلح حملات القمع، بما في ذلك الاعتقالات والغرامات وحتى السجن، في كسر هذا التحدي الشعبي المستمر"، مضيفا "رغم الضغوط الكبيرة التي مارستها المرجعيات الدينية والتيارات المحافظة لتمرير قوانين جديدة بشأن الحجاب داخل البرلمان، فإن النظام امتنع عن المضي قدمًا فيها، في مؤشر على إدراكه لحساسية الوضع الداخلي".
ويعتقد عفراوي أن النظام الإيراني يعيش حالة من التوجس الأمني، خصوصًا مع تصاعد التهديدات الأمريكية، ما يدفعه إلى تبني سياسات تهدف إلى امتصاص الغضب الداخلي وتجنب انفجار شعبي محتمل.
ويرى أن هذه الخطوات تتجلى في عدة قرارات، منها إطلاق سراح مهدي كروبي، رئيس البرلمان الأسبق، بعد أكثر من 14 عامًا من الإقامة الجبرية، والإشارات المتزايدة نحو الإفراج عن مير حسين موسوي رئيس الوزراء الأسبق، إضافة إلى رفع رواتب المتقاعدين والموظفين بنسبة تتجاوز 35%، ونشر قواعد صاروخية في عدة مدن، كرسالة ردع ضد أي تهديد خارجي وإظهار الجاهزية العسكرية.
ومع ذلك، يستدرك عفراوي قائلاً: "رغم هذه التحركات، يبقى واضحًا أن النظام الإيراني يحاول كسب الوقت والتخفيف من الضغوط دون تقديم حلول حقيقية". ويرى أنه من غير المرجح أن تنجح هذه الإجراءات في استعادة ثقة الشارع، خصوصًا في ظل وعي الإيرانيين المتزايد، لا سيما بين الشباب والنساء، بأن التغيير الحقيقي يتطلب أكثر من مجرد تنازلات تكتيكية.
ألاعيب سياسية
من جانبها، تعد المحللة السياسية منى سيلاوي أن هناك خلافًا داخل النظام بشأن سياسات الحجاب؛ في حين يرى البعض أن تطبيقه الصارم يضعف النظام، يسعى آخرون إلى استخدامه أداة لخنق حقوق المرأة بشكل غير مباشر، بهدف تجنب تكرار سيناريو مهسا أميني.
وأشارت سيلاوي في تصريح لـ"جسور بوست" إلى أن "العقوبات المالية باتت وسيلة بديلة لتفادي المواجهة المباشرة بين دوريات شرطة الأخلاق والنساء، كما تمثل مصدر دخل جديدًا للنظام من خلال آليات الرصد الحديثة، على غرار ما تطبقه الصين".
وأضافت أن هناك مخاوف شديدة داخل إيران من أن يؤدي فرض قوانين أكثر تشددًا إلى ردود فعل شعبية عنيفة، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وموجات الغلاء، وانقطاع الكهرباء والمياه، وتراجع الأجور، موضحة أن الشعب الإيراني لديه عتبة تحمل محدودة، وهذه الضغوط المتزايدة قد تؤدي إلى انفجار اجتماعي.
وتتوقع سيلاوي أنه إذا استمر النظام في سياساته القمعية، فإن التدخل في الحياة الشخصية للمواطنين قد يكون القشة التي تقصم ظهر البعير، قائلة: "لا كهرباء ولا اقتصاد، والآن يريدون التحكم حتى في لباس الناس، بعد أن فشلوا في وعودهم بتحويل إيران إلى ’اليابان الإسلامية".
وأشارت إلى أن تأجيل تطبيق قوانين الحجاب الصارمة ليس فقط نتيجة لضغوط داخلية، بل يأتي أيضًا استجابة للضغوط الأمريكية والغربية، وترى أن النظام الإيراني يحاول تخفيف القيود مؤقتًا لاحتواء أي احتجاج داخلي، خاصة مع صعوبة التنبؤ بتبعات أي انتفاضة شعبية جديدة.
في ظل هذه التحولات، يبقى السؤال الأهم: هل النظام الإيراني بصدد تغيير استراتيجي حقيقي، أم أن هذه التنازلات مجرد تكتيك مؤقت لكسب الوقت؟ الواقع يشير إلى أن الضغوط الداخلية والخارجية تجبره على المناورة، لكن بقاء الأزمة الاقتصادية والتوترات السياسية قد يجعلان من الصعب الاستمرار في سياسة "التهدئة المؤقتة" دون عواقب طويلة الأمد.