اتساع الاحتجاجات في تركيا يضع قمع الصحافة واعتقال المعارضين تحت المجهر الحقوقي الدولي
اتساع الاحتجاجات في تركيا يضع قمع الصحافة واعتقال المعارضين تحت المجهر الحقوقي الدولي
تتواصل الاحتجاجات الشعبية في تركيا للأسبوع الثاني على التوالي، في أكبر موجة غضب تشهدها البلاد منذ أكثر من عقد، وذلك رفضًا لاعتقال رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، الذي يُعدّ المنافس الأبرز للرئيس رجب طيب أردوغان.
وتتصاعد الدعوات الحقوقية للمطالبة بحماية حق التظاهر وحرية الصحافة، ووقف الاعتقالات، وحظر التجمعات، في ظل اتهامات للحكومة بمحاولة قمع المعارضة عبر وصف الاحتجاجات بأنها "إرهاب شوارع".
وأدانت دول ومنظمات غربية العنف الذي تعرض له المتظاهرون، مطالبة بالإفراج عن المعتقلين واحترام حقوق الإنسان، في حين يرى مراقبون أن هذه المظاهرات تمثل التحدي الأكبر لحكم أردوغان منذ احتجاجات عام 2013.
واندلعت الاحتجاجات عقب توقيف إمام أوغلو بتهم تتعلق بالفساد، وهي اتهامات يرفضها بشدة، مؤكدًا أنها ذات دوافع سياسية، إذ تم ترحيله الأحد إلى سجن شديد الحراسة على أطراف إسطنبول، في اليوم ذاته الذي أُعلن فيه رسميًا مرشحًا رئاسيًا عن حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، ما يجعله المنافس الأبرز لأردوغان في الانتخابات المقبلة، سواء في موعدها الرسمي عام 2028 أو في حال الاستجابة لمطالب المعارضة بإجراء انتخابات مبكرة.
ويُذكر أن إمام أوغلو، البالغ من العمر 53 عامًا، يتولى رئاسة بلدية إسطنبول منذ عام 2019، بعدما نجح في كسر هيمنة حزب العدالة والتنمية الحاكم على المدينة لمدة 25 عامًا.
تصعيد حكومي
في مؤتمر صحفي عُقد الخميس، أعلن وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، اعتقال 1.879 شخصًا خلال الاحتجاجات، بينهم 260 يُزعم ارتباطهم بـ12 منظمة إرهابية، مؤكدًا أن "العدالة تتحقق في المحاكم وليس في الشوارع"، كما وصف الوزير بعض أحداث العنف خلال التظاهرات بأنها تهديد للسلم العام، مشيرًا إلى استخدام المتظاهرين لمواد حارقة.
وشهدت العاصمة أنقرة، صباح الخميس، تصعيدًا أمنيًا، حيث استخدمت الشرطة التركية رذاذ الفلفل، والرصاص البلاستيكي (الخرز)، وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين.
مع دخول الاحتجاجات أسبوعها الثاني، تبنّى حزب الشعب الجمهوري، الذي كان ينظم تجمعات يومية أمام مبنى بلدية إسطنبول، تكتيكًا جديدًا، داعيًا المواطنين إلى التعبير عن احتجاجهم عبر التصفيق، إطلاق أبواق السيارات، أو التلويح بالأعلام من نوافذ منازلهم، كما دعا زعيم الحزب، أوزغور أوزيل، إلى تنظيم مسيرة حاشدة يوم السبت دعمًا لإمام أوغلو والمطالبة بانتخابات مبكرة.
وتأتي هذه الدعوات رغم تمديد السلطات التركية حظر التجمعات حتى الأول من أبريل، وفي سياق متصل، صرّح وزير الداخلية عبر منصة "إكس"، بأن الأجهزة الأمنية ستواصل اعتقال "المشتبه بهم"، مشددًا على أن الدولة لن تسمح "بمحاولات إثارة الفوضى".
من جانبه، أعلن الرئيس أردوغان، الأربعاء، عن فتح تحقيقات جديدة بتهم الفساد قد تستهدف حزب الشعب الجمهوري، مؤكدًا: "كفوا عن إرهاب الشوارع".
انتهاكات متواصلة
أصدرت محكمة في إسطنبول، الثلاثاء، قرارًا بإيداع سبعة صحفيين، بينهم مصور يعمل لدى وكالة "فرانس برس"، في الحبس الاحتياطي، بتهمة المشاركة في تجمعات محظورة.
وانتشر على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر المصور تانسل جان وهو يعاني صعوبة في الكلام بعد تعرضه لرذاذ الفلفل في أثناء حملة قمع نفذتها الشرطة.
وروى جان تفاصيل ما حدث قائلًا: "هاجمني ستة أو سبعة عناصر من الشرطة رغم أنني أكدت لهم مرارًا أنني صحفي وأبرزت لهم بطاقة الصحافة"، مضيفًا: "رشّوا الغاز مباشرة على وجوهنا، وضربونا بالهراوات، وواصلوا الاعتداء علينا ونحن ملقون على الأرض".
في سياق متصل، أفادت منظمة "نيت بلوكس"، المتخصصة في مراقبة الإنترنت، بأن السلطات التركية فرضت قيودًا على الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك "إكس"، و"تيك توك"، و"إنستغرام"، و"يوتيوب"، في خطوة تهدف إلى الحد من انتشار الأخبار والتقارير حول الاحتجاجات.
وعلّق فريق الشؤون الحكومية العالمية في منصة "إكس"، عبر منشور رسمي، قائلًا: "نعترض على عدة أوامر قضائية صادرة عن هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التركية، تطالب بحجب أكثر من 700 حساب تعود لمؤسسات إخبارية وصحفيين وشخصيات سياسية وطلبة وغيرهم".
وأضاف الفريق: "نرى أن هذا القرار لا يفتقر فقط إلى الشرعية القانونية، بل إنه يعوق أيضًا ملايين المستخدمين في تركيا عن الوصول إلى الأخبار والنقاش السياسي في بلدهم"، إلا أن هذا التصريح قوبل بانتقادات من قبل المدافعين عن حرية التعبير في تركيا، ولا سيما بعد ورود تقارير تفيد بأن "إكس" امتثلت جزئيًا لطلبات الحكومة التركية وقامت بحجب العشرات من الحسابات.
وفي خطوة أخرى لتضييق الخناق على التغطية الإعلامية للاحتجاجات، وجّه رئيس هيئة الرقابة على الإعلام في تركيا، أبوبكر شاهين، يوم الاثنين، تحذيرًا لوسائل الإعلام المستقلة وتلك المرتبطة بالمعارضة، ملوحًا بإمكانية فرض عقوبات مشددة، قد تصل إلى الحظر طويل الأمد أو حتى سحب التراخيص بالكامل، في حال استمرارها بتغطية الاحتجاجات.
وقال شاهين: "نكرر أن الجهات التي تدعو الناس للنزول إلى الشوارع، أو توفر منصة لخطابات غير قانونية، أو تبثّ محتوى منحازًا يتعارض مع القانون، ستواجه عقوبات تراوح بين حظر البث لفترات طويلة، وصولًا إلى إلغاء الترخيص نهائيًّا".
واتهم شاهين بعض وسائل الإعلام بالتحريض على الفوضى، مطالبًا الصحفيين بالاعتماد فقط على البيانات الرسمية، كما نفى أن تكون هذه الإجراءات تهديدًا لحرية الصحافة في تركيا، وهو ما أثار موجة انتقادات من المنظمات الحقوقية التي تعد هذه الخطوة محاولة واضحة لإسكات الأصوات المستقلة.
مخاوف ومطالب
ودعا رئيس مجلس إدارة وكالة "فرانس برس"، فابريس فريس، الثلاثاء، الرئاسة التركية إلى "الإفراج الفوري" عن مصورها ياسين أكجول، المحتجز بتهمة المشاركة في تجمع محظور في إسطنبول.
وأكد فريس، في رسالة رسمية موجهة إلى الرئاسة التركية، أن "ياسين أكجول لم يكن متظاهرًا، بل كان يؤدي عمله الصحفي، حيث كان يُغطي إحدى التحركات الاحتجاجية التي اندلعت منذ الأربعاء 19 مارس" إثر اعتقال رئيس بلدية إسطنبول المعارض. ووصف فريس توقيفه بأنه "غير مقبول".
من جهتها، أدانت منظمة "مراسلون بلا حدود" قرار اعتقال الصحفيين، واصفةً إياه بأنه "فضيحة تعكس الوضع الحرج لحرية الصحافة في تركيا"، إذ دعا المدير العام للمنظمة، تيبو بروتان، الحكومة التركية إلى الإفراج الفوري عن الصحفيين المحتجزين، مؤكدًا أن "هؤلاء الصحفيين كانوا فقط يقومون بعملهم. يجب ألا يمثلوا أمام القضاء، بل يجب إطلاق سراحهم فورًا. إنه عمل مشين".
كما أعربت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، الأربعاء، عن "قلقها العميق" إزاء ما وصفته بـ"التغيير الجذري" في موقف القضاء التركي، بعد أن ألغت المحكمة قراراتها الأولية بالإفراج عن الصحفيين فور تدخل المدعي العام، وفقًا لمحامي الصحفيين المعتقلين. وقالت المتحدثة باسم المفوضية، ليز تروسيل، في بيان: "من المقلق أن يتم التراجع عن قرارات الإفراج فورًا بعد تدخل النيابة".
أعربت فرنسا، الأربعاء، عن "قلقها العميق" إزاء تقارير تفيد بتصعيد القمع ضد المتظاهرين والصحفيين في تركيا، بحسب مصدر دبلوماسي لوكالة "فرانس برس".
وفي مؤتمر صحفي، قال أحد مستشاري الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون: "نستنكر اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، ونأمل في إطلاق سراحه قريبًا. تركيا شريك مهم، لكننا نريد شريكًا ديمقراطيًا يحترم الحريات الأساسية".
بدوره، عبّر وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، عن "قلقه البالغ" بشأن حملة التوقيفات والقمع المستمر للاحتجاجات في تركيا، وذلك خلال اجتماعه مع نظيره التركي، هاكان فيدان، في واشنطن.
وعلى صعيد متصل، ندد مجلس أوروبا، الثلاثاء، بـ"الاستخدام غير المتكافئ للقوة" ضد المتظاهرين، مطالبًا السلطات التركية بالالتزام بتعهداتها في مجال حقوق الإنسان.
كما دعت المفوضية الأوروبية، الأربعاء، الحكومة التركية إلى احترام القيم الديمقراطية، ولوّح المتحدث باسمها بإمكانية إلغاء المحادثات المقررة مع أنقرة. وأوضح أن رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لاين، وصفت الاعتقالات بأنها "مقلقة للغاية"، خاصة أنها جاءت قبل أيام فقط من إعلان نيتها عقد محادثات مع تركيا.
وكان من المفترض أن تركز المحادثات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا في أبريل على القضايا الاقتصادية، يليها حوار موسّع حول ملفات الهجرة والأمن، لكن التصعيد الأخير قد يؤدي إلى إعادة النظر في هذه الخطط.
إدانات دولية
أعربت الأمم المتحدة، الثلاثاء، عن قلقها إزاء حملة الاعتقالات الجماعية التي تشنها السلطات التركية وسط تظاهرات واسعة النطاق، وحثت أنقرة على التحقيق في مزاعم استخدام القوة غير المشروعة ضد المتظاهرين.
وأكدت المنظمة أنها تتابع الوضع من كثب، خاصة فيما يتعلق باعتقال رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، والاحتجاز الجماعي للصحفيين الذين يغطّون الاحتجاجات.
وفي مؤتمر صحفي في نيويورك، شدد المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، على ضرورة أن "يُسمح للصحفيين بأداء عملهم بحرية دون خوف من المضايقات أو الاعتقالات، سواء في تركيا أو في أي مكان آخر في العالم"، مؤكدًا أهمية احترام حق المواطنين في التظاهر السلمي وضمان الإجراءات القانونية العادلة.
وذكرت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، الأربعاء، أن "حرية الصحافة في تركيا تتعرض لضغوط متزايدة"، مشيرة إلى أن اعتقال ما لا يقل عن عشرة صحفيين في أثناء تغطيتهم الاحتجاجات المناهضة للحكومة أثار مخاوف متزايدة بشأن الأخطار التي يواجهها الصحفيون في البلاد.
وتحتل تركيا المرتبة 158 من أصل 180 دولة على مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2024 الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود"، ما يعكس تدهور الوضع الإعلامي في البلاد.
كما نقلت "بي بي سي"، عن إيفين بارِش ألتينتاش، مديرة جمعية "دراسات الإعلام والقانون" قولها: "إن هذه الاعتقالات تعكس "استراتيجية الحكومة في استخدام القضاء أداةً لتقييد حرية الصحفيين والحد من قدرتهم على التغطية الإعلامية". وأضافت: "لا شك أن هذه الاعتقالات ستُحدث تأثيرًا ردعيًا على الصحفيين الآخرين، لكن رغم ذلك، سيواصلون أداء عملهم".
التحدي الأخطر
يرى المتخصص في الشأن التركي، الدكتور بشير عبد الفتاح، أن انتشار الاحتجاجات بهذا الشكل الواسع يعود إلى الشخصية المستهدفة بالتوقيف، وهو أكرم إمام أوغلو، المرشح الرسمي لحزب الشعب الجمهوري المعارض لمنافسة الرئيس رجب طيب أردوغان أو أي مرشح من الحزب الحاكم في انتخابات الرئاسة المقررة عام 2028، أو في حال تقرر تبكير موعدها.
وأشار عبد الفتاح لـ“جسور بوست” إلى أن إمام أوغلو، الذي يترأس أكبر بلدية في تركيا، يمتلك تطلعات سياسية واضحة، معدًّا هذه الاحتجاجات تحمل أبعادًا سياسية واقتصادية عميقة، خصوصًا في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد.
وأضاف أن أحد أبرز ملامح هذه التظاهرات هو مشاركة فئات شبابية وشرائح عمرية لم تعرف رئيسًا لتركيا سوى أردوغان، إذ نشؤوا في ظل حكمه الذي امتد منذ عام 2003 كرئيس للوزراء حتى 2014، ثم كرئيس للدولة حتى اليوم، وهو ما يفسّر تعطشهم للتغيير السياسي.
وشدد عبد الفتاح على أن التظاهرات لا تقتصر على الاعتراض على اعتقال إمام أوغلو فقط، بل تشمل مطالب أوسع بالتغيير السياسي، وهو ما يتضح من انضمام فئات مختلفة إليها، بما في ذلك المعارضة السياسية وقطاعات واسعة من المواطنين الباحثين عن بديل بعد 22 عامًا من حكم أردوغان.
وحذر من أن هذه الاحتجاجات قد تستمر في التوسع، خاصة بعد دعوة رئيس حزب الشعب الجمهوري إلى استمرارها، رغم قرار السلطات بحظر التجمعات، مشيرًا إلى أن هذه التطورات قد تجعلها أشبه بـ"كرة ثلج" تتدحرج وتكبر، كما حدث في احتجاجات عام 2013، التي شهدت مشاركة مليون شخص، وأسفرت عن مقتل 11 متظاهرًا وإصابة واعتقال الآلاف.
وأكد عبد الفتاح أن خطورة الاحتجاجات الحالية تكمن في انتشارها الجغرافي، وتنوع الفئات المشاركة فيها، وقدرتها على الاستمرارية، ما يجعلها أكبر تحدٍّ يواجه أردوغان منذ أكثر من عقد.
مع استمرار قمع المتظاهرين واعتقال الصحفيين، تزداد الضغوط الدولية على أنقرة، فيما يترقب المراقبون كيف ستتعامل الحكومة مع هذه الأزمة المتصاعدة، خاصة مع تزايد الغضب الشعبي واتساع دائرة الاحتجاجات في ظل وضع اقتصادي متدهور.