"فورين أفيرز": قضية "التجويع في غزة" سابقة تهدد قادة إسرائيل
"فورين أفيرز": قضية "التجويع في غزة" سابقة تهدد قادة إسرائيل
بدأت المحكمة الجنائية الدولية هذا الأسبوع النظر في اتهامات غير مسبوقة ضد قادة إسرائيليين، تتعلق باستخدام سلاح التجويع بحق سكان غزة خلال الحرب المستمرة منذ أكتوبر 2023.
ووفقا لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، يمثل هذا التطور أول مرة تُقدَّم فيها قضية أمام محكمة دولية كبرى بتهمة "تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب"، كما يعرّفه نظام روما الأساسي الذي تأسست بموجبه المحكمة.
واستأنفت إسرائيل في أوائل مارس الماضي فرض حصار خانق على قطاع غزة، شمل منع دخول الغذاء والدواء والوقود والكهرباء، وجاء هذا القرار مع تلاشي فرص تمديد وقف إطلاق النار مع حركة حماس، حيث هدفت الحكومة الإسرائيلية، بحسب تصريحات رسمية، إلى ممارسة أقصى ضغط على المدنيين لدفع حماس إلى القبول بشروط التهدئة.
ودافع وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، علنًا عن القرار، قائلًا إن وقف المساعدات الإنسانية وسيلة لـ"فتح أبواب الجحيم بأسرع وأشد الطرق"، ولم تكن هذه التصريحات معزولة، بل أكدها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، فيما صرّح عضو الكنيست، موشيه سعادة لقناة إسرائيلية: "نعم، سأجوع سكان غزة.. هذا واجبنا".
التجويع في صلب الاتهامات
يتهم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، كلًا من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بالإشراف على سياسة تجويع ممنهجة ضد سكان غزة، ويؤكد خان أن قادة إسرائيل تعمّدوا حرمان المدنيين من المواد الأساسية للحياة، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
وبينما تركز مذكرات التوقيف الصادرة بحق قادة حماس على أحداث 7 أكتوبر، تستند الاتهامات الموجهة إلى نتنياهو وغالانت إلى المادة 8 من نظام روما الأساسي، والتي تحظر استخدام التجويع كأسلوب حرب أو عرقلة إيصال المساعدات الإنسانية.
وقد تسبب الحصار الإسرائيلي في أزمة إنسانية متفاقمة، فقد أعلن برنامج الأغذية العالمي في أبريل أن جميع المخابز الـ25 التي كان يدعمها في غزة توقفت عن العمل بسبب نقص الدقيق والوقود.
وأشار تقييم غذائي أممي إلى أن نحو 80% من سكان القطاع البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة يواجهون "جوعًا شديدًا".
وأصبح نحو 91% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن المائي، نتيجة توقف محطات التحلية بسبب غياب الوقود والكهرباء، ما زاد من خطر انتشار الأمراض.
وأكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن غزة تمر حاليًا بأطول فترة انقطاع في دخول المساعدات منذ بداية الحرب، وقال متحدث باسم المكتب إن الوضع الإنساني في القطاع هو الأسوأ منذ اندلاع النزاع.
معركة قانونية وسياسية
رغم وضوح الانتهاكات، تجد المحكمة الجنائية الدولية نفسها في مواجهة تحديات قانونية ودبلوماسية كبيرة، فهذه هي المرة الأولى التي يُلاحَق فيها زعيم لدولة حليفة للغرب، مما وضع الدول الأوروبية وكندا أمام مأزق قانوني: إذ يتوجب عليها قانونًا تنفيذ أوامر الاعتقال إذا دخل نتنياهو أو غالانت أراضيها.
من جهتها، عارضت الولايات المتحدة بشدة هذه الإجراءات، وفي عهد الرئيس دونالد ترامب، سعت واشنطن إلى تقويض المحكمة، ففرضت عقوبات على مسؤوليها وسحبت دعمها لتحركات المحكمة بشأن جرائم روسيا في أوكرانيا.
وفي محاولة لتأمين استمراريتها، لجأت المحكمة الجنائية الدولية إلى دفع رواتب موظفيها مقدمًا وطلبت دعمًا طارئًا من الاتحاد الأوروبي، ووصفت رئيستها، توموكو أكاني، الوضع الحالي بأنه "تهديد وجودي" للمؤسسة القضائية الدولية.
سلاح التجويع
رغم صعوبة إثبات نية التجويع، خاصة في ظل تعقيدات النزاعات المسلحة، تسعى المحكمة إلى ترسيخ سابقة قانونية قد تغيّر فهم العالم للحرب ووسائلها، فحتى الآن، لم تُحاسَب جهات عديدة استخدمت التجويع كوسيلة للضغط العسكري أو السياسي.
ويلقي هذا الملف الضوء على خطورة استخدام الجوع كسلاح ضد المدنيين، وهو نهج يُعتبر في القانون الدولي جريمة حرب، لكنه نادر الملاحقة.
وسواء نجحت المحكمة في إثبات التهم أم لا، فإنها فتحت الباب أمام مراجعة أوسع للمعايير الإنسانية في النزاعات المسلحة.
تجويع المدنيين.. إرث مظلم
رغم مقتل ملايين المدنيين بسبب استراتيجيات الحصار والتجويع خلال القرن العشرين، لم يُعترف رسميًا بالتجويع كسلاح محظور في القانون الدولي حتى عام 1977، وحتى بعد إدراجه، نادرًا ما جرت محاكمة المسؤولين عنه، لا سيما في المحاكم الدولية التي أُنشئت عقب الحرب العالمية الثانية أو حروب البلقان في التسعينيات.
ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن التجويع كان جزءًا من الفكر العسكري الغربي طوال عقود، خلال الحرب العالمية الأولى، فرضت بريطانيا حصارًا على دول المركز أدى إلى مئات الآلاف من الوفيات، بينما اعتبرت الولايات المتحدة الحصار وسيلة فعالة في حربها ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية.
وتكشف قضية المحكمة الجنائية الدولية بشأن إسرائيل وغزة عن سعي جديد لإعادة تعريف قواعد الحرب، وفتح ملفات مسكوت عنها تاريخيًا، فالتجويع، وإن كان سلاحًا قديمًا، لا يزال يستخدم في القرن الحادي والعشرين دون محاسبة تُذكر.
وقد تُشكّل هذه المحاكمة نقطة تحوّل ليس فقط في مسار الحرب في غزة، بل في تعزيز قواعد القانون الدولي التي تهدف إلى حماية المدنيين في زمن الحرب.