العدسة في مرمى النيران.. صحافة مقموعة بين تل أبيب وطهران وأكاذيب تسرق صوت الضحية

العدسة في مرمى النيران.. صحافة مقموعة بين تل أبيب وطهران وأكاذيب تسرق صوت الضحية
قيود حرية الصحافة والإعلام- تعبيرية

 

في الوقت الذي تتصاعدُ فيه حدة الصراع العسكري والسياسي بين إسرائيل وإيران، يبدو أن الإعلام والصحافة تحوّلا إلى أدوات صراع استراتيجية، لا تقل أهمية عن الصواريخ والطائرات المسيّرة، ففي وسط مشهد تتقاطع فيه الرقابة الأمنية مع الأدلجة السياسية، تضيق المساحات أمام الحقيقة، وتُكمم الأفواه باسم "الأمن القومي" أو "الشرعية الثورية".

وتحوّل الإعلام من وسيلة لنقل الوقائع إلى جبهة حرب موازية، تُخاض فيها المعارك بالكلمات والصور، وتُستخدم فيها الرقابة والتضليل أدوات للهيمنة على الوعي العام. 

في الثالث عشر من يونيو، شنت إسرائيل سلسلة غارات جوية غير مسبوقة استهدفت العمق الإيراني، من بينها ما وصفته تل أبيب بمراكز تطوير نووي وصاروخي، أحد الأهداف كان مبنى التلفزيون الرسمي الإيراني IRINN في قلب طهران، المذيعة سحر إمامي كانت تبث نشرة الأخبار حين وقع الانفجار، وامتلأ الاستوديو بالغبار والحطام، قبل أن تنقطع الصورة ويُشاهد الفريق الصحفي وهو يهرب من الموقع، ولم يكن المشهد الصادم، الذي وثقته وكالة "أسوشيتد برس"، عارضًا، بل جاء في سياق استهداف مباشر لمؤسسات إعلامية اعتبرتها إسرائيل "أدوات دعاية معادية"، كما ورد في بيان لوزارة الدفاع الإسرائيلية نشرته صحيفة "بوليتيكو".

وأسفر الهجوم عن مقتل 224 شخصًا في أنحاء مختلفة من إيران، بحسب وكالة "رويترز" نقلًا عن مصادر طبية في الهلال الأحمر الإيراني، في حين أُصيب أكثر من 860 شخصًا بجروح متفاوتة، وردّت إيران بإطلاق أكثر من 100 صاروخ استهدفت مدنًا إسرائيلية، ما أوقع 24 قتيلًا وأكثر من 500 جريح، وفق أرقام هيئة الطوارئ الإسرائيلية وتأكيدات قناة "كان" الرسمية.

لم تكن الأضرار مادية فقط، ففي 16 يونيو، أغلقت السلطات الإيرانية مكاتب وكالات أنباء أجنبية، من بينها "بي بي سي فارسي" و"رويترز"، وحجبت أكثر من 27 موقعًا إخباريًا خلال 24 ساعة، بحسب وكالة "فارس" المقربة من الحرس الثوري، كما اعتُقل أكثر من 200 شخص بتهم شملت "نشر أخبار كاذبة" و"التخابر مع جهات معادية"، ومن بين المعتقلين صحفيون معروفون مثل ميثم شريفي وبهناز رشيدي، واللذين لا يزال مصيرهما مجهولًا، بحسب تقرير منظمة "العفو الدولية".

رقابة صارمة على التغطية الإعلامية

في المقابل، فرضت إسرائيل رقابة عسكرية صارمة على التغطية الإعلامية، حيث صدرت 34 أمر حظر نشر خلال أسبوع واحد فقط، تمنع وسائل الإعلام من تناول قضايا تتعلق بالعمليات العسكرية ومواقع تمركز الجيش، ووفق تقرير صادر عن "مراسلون بلا حدود"، شهد عام 2024 حظرًا كاملًا لأكثر من 1,600 مادة صحفية، بالإضافة إلى رقابة جزئية طالت 6,265 مادة، بمتوسط 21 تدخلًا يوميًا، ويعكس هذا المشهد واقعًا إعلاميًا يخضع لإشراف صارم من المؤسسة العسكرية، ما يحد من قدرة الصحفيين على تقديم روايات مستقلة.

تُظهر هذه الأرقام حجم الأزمة الإعلامية في كلا البلدين، حيث تتحول الصحافة إلى هدف مشروع في وقت الحرب، وتُعامَل كعدو داخلي يجب تقييده أو استئصاله، ففي إيران، لا يقتصر القمع على حجب المعلومات، بل يمتد إلى الفضاء الرقمي، وتشير تقارير منظمة "Access Now" (مايو 2025) إلى أن إيران تحجب نحو 70% من المواقع الإلكترونية العالمية، بما فيها منصات مثل واتساب، وإنستغرام، وتليغرام، ويُلاحق مستخدمو الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN)، إذ أُعتقل 73 شخصًا خلال يونيو فقط بتهمة استخدام أدوات كسر الحجب لتسريب صور الغارات، بحسب ما نقلت وكالة "هرانا" الحقوقية.

أما في إسرائيل فالصراع الإعلامي أخذ بُعدًا قانونيًا بعد مصادقة الكنيست في مارس 2025 على قانون يُتيح للحكومة إغلاق أي وسيلة إعلام تُعتبر مهددة للأمن القومي، وقد تم بموجب هذا القانون إغلاق مكتب قناة الجزيرة في القدس الغربية بالقوة في مايو، ما أثار احتجاجًا واسعًا من منظمات دولية بينها "لجنة حماية الصحفيين" (CPJ). كما مُنع طاقم شبكة CNN من دخول قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، في استمرار لسياسات تقييد وصول الإعلام الأجنبي.

الصحفيون الفلسطينيون والعرب

الصحفيون الفلسطينيون والعرب داخل إسرائيل والضفة الغربية ليسوا في مأمن أيضًا، إذ وثّقت منظمة "بتسيلم" 11 حالة اعتداء على صحفيين خلال تغطيات ميدانية في القدس ويافا، شملت إصابات بالغاز المسيل للدموع والضرب بالهراوات.

وانعكست هذه السياسات القمعية بوضوح في مؤشرات حرية الصحافة الصادرة مؤخرًا ففي تقرير "فريدوم هاوس" لعام 2025 (15 مايو)، حصلت إيران على 10 نقاط فقط من أصل 100، لتظل ضمن فئة "غير حرة"، بسبب التقييد الشامل واعتقال الصحفيين والتضييق الرقمي، أما إسرائيل فقد تراجعت إلى 48 نقطة، ما يضعها في فئة "حرة جزئيًا"، بتراجع قدره 6 نقاط عن 2023 نتيجة لتشديد الرقابة العسكرية وازدياد أوامر حظر النشر.

التقرير السنوي لـ"مراسلون بلا حدود" (3 مايو 2025) أكد هذا التراجع، حيث جاءت إسرائيل في المرتبة 112 من أصل 180، بتراجع 11 مرتبة عن عام 2024، بسبب “تآكل استقلالية الإعلام وتزايد تدخل الجيش في التغطيات”، أما إيران، فحافظت على موقعها المتأخر في المرتبة الـ173، لتبقى ضمن أسوأ عشر دول على مستوى العالم، إلى جانب كوريا الشمالية وإريتريا.

ورغم القمع، تبرز مبادرات مقاومة من الداخل والخارج، ففي إيران، يستخدم الصحفيون أدوات متقدمة مثل شبكات الاستضافة اللامركزية والتطبيقات المشفّرة كـ"تليغرام" و"سيغنال" لتجاوز الحجب، وكشفت دراسة صادرة عن مركز "Iran Internet Observatory" (يونيو 2025) أن 46% من الصحفيين المستقلين يستخدمون هذه الأدوات لنشر تقاريرهم.

وفي إسرائيل، رغم عدم وجود رقابة على الإنترنت، فإن الرقابة العسكرية تُجبر بعض الصحفيين على تسريب موادهم إلى الخارج عبر منصات مثل "+972 Magazine" و"IranWire"، التي يديرها صحفيون في المنفى، وتجمع هذه المنصات، بالتعاون مع منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"Article 19"، شهادات مرئية ومكتوبة عبر تطبيقات سرية من الداخل.

لكن هذه الجهود لا تمر دون أثمان باهظة؛ المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، تيم ديفي، كشف خلال جلسة استماع في مجلس العموم البريطاني (27 مايو 2025) أن أكثر من 40 من أقارب صحفيي القسم الفارسي تعرضوا لضغوط أمنية في إيران، شملت الاستدعاء، والتهديد، وحتى إجبارهم على توقيع تعهدات بعدم التواصل مع أقاربهم العاملين في لندن، كما تلقى بعض الصحفيين تهديدات بالقتل عبر الهاتف والبريد الإلكتروني، وأُدرج أربعة منهم على قوائم المطلوبين لدى وزارة الاستخبارات.

في إسرائيل، طَرد طاقم قناة الجزيرة من مكاتب القدس الغربية، ومَنع صحفيي CNN من دخول غزة، ليسا سوى وجهين لممارسات أوسع تهدف إلى فرض سردية أحادية. هذه السردية تُعاد صياغتها يوميًا في نشرات الأخبار التي تخضع للتوجيه، وتقارير صحفية تُقص وتُعاد صياغتها بأوامر عسكرية.

في هذا السياق، لم تعد حرية الصحافة مسألة حقوقية فحسب، بل تحوّلت إلى ضرورة وجودية. فحين تُحاصر الحقيقة، يصبح من المستحيل على المجتمع أن يفهم ما يحدث، أو أن يختار بحرية بين المواقف. وعندما يُمنع الإعلام من نقل الحقيقة، تُخلق فجوة تملؤها الشائعات والدعاية، وتتحوّل الساحة الإعلامية إلى مرآة مكسورة تعكس إرادة السلطة لا صورة الواقع.

الإعلام في إسرائيل وإيران تحت الحصار

يرى الكاتب الصحفي ورئيس تحرير موقع "أوكرانيا اليوم", محمد العروقي، أن الصورة المتداولة عن حرية التعبير في إسرائيل ليست سوى واجهة شكلية لا تعكس الواقع. 

وقال في تصريحات لـ"جسور بوست":"ما يُروَّج عن ديمقراطية إسرائيل الإعلامية هو في جوهره محض ادعاء، فالإعلام هناك خاضع لرقابة عسكرية صارمة، خصوصًا في أوقات الأزمات".

وأضاف أن تعددية وسائل الإعلام الإسرائيلية لا تتجاوز كونها "تعددية شكلية"، تُخضع الرسائل الإعلامية لمصدر مركزي واحد، يُحدّد الخطاب الرسمي ويقمع الأصوات المستقلة، خاصة في الملفات المتعلقة بفلسطين أو الحروب الإقليمية.

إسرائيل.. قنوات متعددة ورسالة واحدة

وفق العروقي، يتم توزيع الإعلام الإسرائيلي على مستويات جماهيرية مختلفة: محلية، عربية، ودولية، إلا أن الرسالة تبقى موحّدة وتصب في خدمة المؤسسة الأمنية والعسكرية، كما أشار إلى استخدام إسرائيل تكتيكات التشويش والفبركة الإعلامية لتوجيه الرأي العام، والتحريض على المنصات المناوئة.

يضيف العروقي أنه "منذ تصعيد فبراير الأخير في غزة، أُغلقت فضائيات، وسُحبت تراخيص، وشُنّت حملات ضد الصحفيين الأجانب.. كل ذلك جزء من استراتيجية تكميم شاملة".

وفي المقابل، يرى العروقي أن الوضع في إيران لا يختلف كثيرًا، وإن اتخذ شكلاً آخر من القمع الإعلامي، يرتكز على مبررات دينية وأيديولوجية. فالإعلام الإيراني، بحسب وصفه، يعمل ضمن بيئة مغلقة تفتقر لأي تعددية حقيقية، فيما تبقى الصحافة المستقلة هدفًا دائمًا للملاحقة أو الإغلاق.

أسماء علام: الصحافة أصبحت "في مرمى النيران"

من جهتها، اعتبرت خبيرة حقوق الإنسان والناشطة أسماء علام أن الحرب الإعلامية المحتدمة بين إيران وإسرائيل جعلت من الصحافة ضحية مباشرة، لا مجرد ناقلة للأحداث.

وقالت في حديثها لـ"جسور بوست": "التذرّع بالأمن القومي لتقييد الإعلام، سواء في تل أبيب أو طهران، يُمثّل انتهاكًا صارخًا لحق الناس في المعرفة، ويحوّل الصحافة من وسيلة إعلام إلى أداة تعبئة".

وأشارت إلى أن الرقابة في إيران تمارس عبر أدوات قضائية ومعلوماتية، تشمل حجب المواقع، والاعتقالات، واتهامات فضفاضة، في حين تُمارس إسرائيل رقابة عسكرية معلنة، تمنع التغطية من غزة أو جنوب لبنان، وتحاصر الرواية المستقلة خلف جدران الأوامر العسكرية.

ديمقراطية انتقائية وإعلام بوجهين

سلّطت علام الضوء على المفارقة بين الخطاب الديمقراطي الذي تدّعيه إسرائيل، وبين ممارساتها الرقابية الممنهجة، قائلة إن هذا "الازدواج في المعايير" يضعف ثقة الجمهور العالمي بالإعلام كسلطة رابعة، ويُحوّل المعركة من ميدان الحقيقة إلى ساحة دعائية مشوّهة.

وتضيف علام: "في زمن الحروب، الكاميرا تُصادر، والصوت يُلاحق، بينما تُسمّى الرقابة حماية للأمن، وتُسمّى التضليل رواية وطنية".

أشارت علام إلى أن الصحفيين المستقلين باتوا يلجؤون إلى وسائل بديلة مثل التراسل المشفّر أو منصات خارجية، لمحاولة تجاوز الحصار المفروض على المعلومة. لكن حتى هذه الوسائل، كما قالت، لا تخلو من المخاطر، سواء من حيث الاختراق، أو الرقابة، أو العقوبات.

وفي الختام يُظهر المشهد الإعلامي في إسرائيل وإيران بوضوح أن حرية الصحافة لا تُمنح، بل تُنتزع. في كلا البلدين، تختلف الأدوات لكن النتيجة واحدة: تحكّم سلطوي في السرد، وإقصاء للصوت الحرّ.

فما بين الرقابة العسكرية الإسرائيلية الصارمة، والمنظومة الأيديولوجية الإيرانية المغلقة، تتحول الصحافة إلى ساحة صراع على الوعي والذاكرة، لا مجال فيها للرأي الآخر أو للرواية الإنسانية المستقلة.

في هذا السياق، يصبح دعم الصحافة الحرة والمهنية ضرورة ملحّة، لا لأجل مهنة الصحافة فقط، بل لحماية الحقيقة نفسها من الاختناق تحت أنقاض الدعاية والدكتاتورية الإعلامية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية