تصريحات مسؤولين تكشف كيف تُترجم إسرائيل انتصارها على إيران إلى رخصة لإبادة الفلسطينيين

تصريحات مسؤولين تكشف كيف تُترجم إسرائيل انتصارها على إيران إلى رخصة لإبادة الفلسطينيين
سموترتش وبن غفير

بالتزامن مع الإعلان عن هدنة إقليمية كبرى بين إسرائيل وإيران، عقب تصعيد غير مسبوق كاد يجرّ المنطقة نحو كارثة نووية، خرج وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بتصريح لا يحمل روح التهدئة أو احترام لحظة الانفراج النسبي، بل دعوة صارخة لتوسيع رقعة الدماء: "علينا استغلال النصر الساحق على إيران لإتمام المهمة في غزة"، قالها دون مواربة، واضعًا الحرب في خانة "فرصة سياسية"، والانتصار كذريعة لمواصلة ما يمكن وصفه –وفق أدبيات القانون الدولي– بالإبادة الجماعية.

لا يأتي هذا الخطاب في فراغ، بل هو امتداد مباشر لمسار ممنهج يُحوّل القوة العسكرية من أداة للردع أو الدفاع إلى مشروع عقائدي للإبادة، يستند إلى خطاب تعبوي يسعى إلى شيطنة الخصم، وتحويل الضحية إلى تهديد وجودي، ومن ثم شرعنة محوها تحت غطاء "النصر الأخلاقي"، إنه منطق "التطهير" الذي يحاول إعادة تعريف النصر العسكري ليس كإخضاع مؤقت لعدو، بل كشرط لوجود الدولة ذاتها.

منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، وما تبعه من عمليات مستمرة حتى يونيو 2025، تشير الإحصاءات الصادرة عن وزارة الصحة في غزة ومنظمة "أطباء بلا حدود" إلى مقتل ما لا يقل عن 56.000 فلسطيني، 70% منهم من النساء والأطفال، إضافة إلى إصابة أكثر من 133,000 شخص، كثير منهم بإصابات دائمة أو إعاقات جسدية، ناهيك عن الأثر النفسي طويل الأمد.

يقول سموتريتش: "النصر على إيران يجب أن يكون بوابة النصر على غزة"، وكأن غزة –المدينة المنكوبة– ساحة تدريب مفتوحة، أو مشهد أخير لمسرحية القوة، هذا التصور ليس مجرد خروج عن الذوق السياسي، بل هو إعلان نوايا مبيتة تقوم على منطق إقصائي يرى في "الآخر الفلسطيني" عائقًا أمام اكتمال مشروع الهوية القومية، وهنا، تُستخدم لغة الانتصار لإخفاء جرائم الحرب، بل لتجميلها.

وبينما تحتفل الصحف الإسرائيلية بـ"الردع الذي تحقق في وجه إيران"، تتجاهل حقيقة أن العمليات العسكرية في غزة لم تحقق حتى الآن أي من الأهداف المعلنة، سواء في استعادة الرهائن، أو في القضاء على البنية التحتية لحماس، بل على العكس، ما جرى هو تدمير ممنهج للبنية التحتية المدنية: 87% من مستشفيات غزة خرجت عن الخدمة وفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية الصادر في مايو 2025، وأكثر من 60% من المدارس دُمرت كليًا أو جزئيًا، بحسب إحصاءات "اليونيسيف".

تبرير الانتهاكات

وفي تقارير منظمة "هيومن رايتس ووتش" (مارس 2025)، وُثّقت عمليات قصف عشوائية أو متعمدة لمراكز إيواء وملاجئ للمدنيين، منها استهداف مدرسة تابعة للأونروا في مخيم جباليا، كانت تؤوي أكثر من 500 نازح، ما أدى إلى مقتل 83 شخصًا بينهم 34 طفلًا، وهو ما وصفته المنظمة بـ"الاستهداف المتعمد لمدنيين في خرق صريح لقوانين الحرب".

المشكلة لا تكمن فقط في حجم القتل أو الدمار، بل في كيفية تبرير ذلك أمام العالم. فخطاب "الضرورة الأمنية" تم تطويعه ليصبح مظلة أيديولوجية تبرر كل شيء، فقد لاحظت منظمات حقوقية، بينها "مجموعة الأزمات الدولية"، أن السردية الرسمية الإسرائيلية انتقلت من الحديث عن "أهداف محدودة" إلى "تغيير الواقع الديمغرافي والسياسي في غزة"، وهو ما يتقاطع بشكل خطر مع تعريف الإبادة الجماعية كما ورد في اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948، التي تنص على أن "الإبادة لا تتطلب استخدام غرف الغاز، بل يكفي تدمير جماعة بشرية جزئيًا، عمدًا، وبشكل ممنهج".

اللافت أن خطاب النصر، الذي يفترض أن يرتبط بانتهاء العمليات، يُستخدم اليوم كمفتاح للتصعيد، بل وذريعة أخلاقية له. فتصريحات سموتريتش ليست معزولة؛ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نفسه صرّح مرارًا بأن "غزة لن تعود كما كانت"، وهو ما كرره وزير الدفاع يوآف غالانت قائلًا: "الانتصار الحقيقي هو حين لا يبقى شيء يُعيد حماس إليه". وهذه اللغة التي يُفترض أن تُنهي المعركة، باتت تفتح أبواب جولات أكثر دموية، ولا يتعلق الأمر بإعلان نصر، بل بإعادة تعريف مفهوم الانتصار نفسه بوصفه فناءً تامًا للعدو وسحقًا لكل ما يرمز إلى وجوده، بما في ذلك المدنيون، والمستشفيات، والمدارس، والمنازل، وذاكرة المدينة.

في هذا السياق، يتحول الخطاب العسكري إلى أداة سياسية لإعادة تشكيل الوعي العام، ليس فقط داخليًا في إسرائيل، بل أيضًا في أروقة الدبلوماسية الغربية. ففي حين تتردد بعض العواصم الأوروبية في وصف ما يحدث بالإبادة، تُمارَس عملية تطبيع ممنهجة مع جرائم الحرب، عبر صمت انتقائي، أو تحميل الضحية جزءًا من المسؤولية عبر مصطلحات مثل "الاستخدام المزدوج للبنية التحتية المدنية" أو "الاختباء بين المدنيين"، وهي عبارات باتت بمثابة تغطية قانونية لتبرير ضرب الأهداف المدنية، وقد تكررت هذه الادعاءات في بيانات الجيش الإسرائيلي لأكثر من 427 مرة منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر 2023، بحسب تحليل صادر عن "منظمة العفو الدولية" في مايو 2025، رغم أن صور الأقمار الصناعية وتقارير الشهود لم تدعم غالبها. في الوقت نفسه، كشفت منظمة "Airwars" في تقرير صدر في أبريل 2025 أن ما لا يقل عن 72% من الضربات الجوية الإسرائيلية خلال الشهور الأولى من الحرب استهدفت مناطق سكنية، في حين لم توثق أي نشاط عسكري لحماس في 54% منها.

ظروف إنسانية كارثية

وبينما توثق تقارير الأمم المتحدة تهجير ما يزيد عن 1.8 مليون فلسطيني من سكان قطاع غزة خلال الأشهر الثمانية الأخيرة، تعاني المخيمات المؤقتة المنتشرة في رفح وخان يونس من ظروف كارثية: انعدام المياه الصالحة للشرب، نقص الغذاء، انتشار الأمراض الجلدية والتنفسية، وفقًا لتقرير "أوتشا" الصادر في يونيو 2025، الذي وصف الوضع الإنساني في جنوب غزة بأنه "الأسوأ منذ نكبة 1948".

 وأفادت منظمة "أنقذوا الأطفال" أن أكثر من 650,000 طفل يعيشون في خيام بلا كهرباء أو ماء منذ شهور، مما تسبب في تسجيل أكثر من 14,200 حالة إصابة بسوء التغذية الحاد، بينها 5,000 حالة تهدد الحياة. كما أشار تقرير صادر عن "منظمة الصحة العالمية" إلى تفشي أمراض مثل الجرب والتهابات الجهاز التنفسي والإسهال، حيث سُجلت أكثر من 1.2 مليون حالة مرضية في الأشهر الأربعة الأخيرة، ضمن بيئة صحية وصفت بأنها "منهارة بالكامل".

وفي ظل هذه الكارثة، يواصل الساسة الإسرائيليون تسويق "نصرهم" على إيران – وهو نصر لم يُختبر بعد في الميدان فعليًا، بل تم تثبيته على طاولة دبلوماسية هشة – كذريعة لإكمال عملية محو غزة، ولا يتعلق الأمر بعملية عسكرية بحتة، بل بترسيخ عقيدة الحرب المفتوحة: إذا انتصرت هناك، يحق لك أن تُنهي المهمة هنا. وكأن لكل قصف خارجي ثمناً داخليًا يُدفع من أجساد الغزيين، فوفقًا لتقديرات "مجموعة الأزمات الدولية"، تُستخدم كل لحظة انتصار إقليمي لتوسيع العمليات في غزة، مستفيدة من انشغال العالم بلعبة التوازنات الكبرى، وتحديدًا بعد اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران الذي أُعلن في يونيو 2025، والذي تزامن مع تصعيد جديد في شمال رفح أسفر عن مقتل 213 مدنيًا خلال يومين فقط، بينهم 84 طفلًا.

في المقابل، يشير تقرير صدر عن "لجنة الأمم المتحدة المستقلة للتحقيق في الأراضي الفلسطينية المحتلة" في يونيو 2025، إلى أن هناك أدلة دامغة على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في غزة، تشمل "القتل العمد، التهجير القسري، والتجويع كأسلوب من أساليب الحرب"، ودعا التقرير إلى محاسبة فورية أمام المحكمة الجنائية الدولية، لكن دون أفق واضح لأي تحرك عملي، في ظل شلل مجلس الأمن وخضوعه لحق النقض الأمريكي، وقد وثق التقرير استهداف 9 منشآت طبية بشكل مباشر، رغم إبلاغ إحداثياتها مسبقًا، وضرب 13 قافلة مساعدات في طريقها إلى شمال القطاع، إلى جانب منع إدخال الوقود لمدة تجاوزت 40 يومًا، مما أدى إلى توقف محطات التحلية، وتفاقم أزمة المياه، حيث يحصل الفرد في غزة الآن على أقل من 3 لترات من الماء يوميًا، مقارنة بالحد الأدنى الموصى به من قبل منظمة الصحة العالمية وهو 50 لترًا.

جرائم ممنهجة وتواطؤ دولي 

أكد الخبير في القانون الجنائي الدولي، الدكتور مصطفى سعداوي، أن السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، خصوصًا في قطاع غزة، تمثل انتهاكًا فاضحًا لمبادئ القانون الدولي الإنساني، وتندرج ضمن نطاق الجرائم الدولية المصنفة، بما في ذلك الإبادة الجماعية، والقتل العمد، والتجويع كسلاح حرب.

وأشار سعداوي، في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، إلى أن الحكومة الإسرائيلية لم تأت بجديد، بل تواصل تنفيذ استراتيجية قديمة قائمة على صناعة وهم الانتصار فوق جثث المدنيين، في ظل صمت دولي وانتقائية أخلاقية تُمكّنها من الإفلات من العقاب.

منظومة قانونية بلا تطبيق

أوضح سعداوي أن ما يجري ليس مجرد تجاوزات فردية، بل مسلسل دموي مستمر، تنفذه آلة عسكرية توظف القوة المفرطة لتحقيق مكاسب سياسية داخلية، وأكد أن تصريحات مسؤولين إسرائيليين – مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش – التي تتحدث صراحة عن "تحقيق انتصارات عسكرية في غزة"، تُعد دليلاً مباشرًا على النية المسبقة، وتسقط أي مبررات تتعلق بالدفاع عن النفس.

ووفق سعداوي، فإن الادعاء بالانتصار في ظل مقتل الأطفال وتجويع المدنيين وتهجيرهم القسري لا يمثل إنجازًا عسكريًا، بل "سقوطًا أخلاقيًا مدويًا". وأضاف: "السلام لا يُصنع بالدبابات، بل بإرادة سياسية تعترف بالحقوق وتُحترم فيها كرامة الإنسان".

عقيدة الإقصاء والاستيطان 

في السياق ذاته، رأت الباحثة المتخصصة في الشأن الإسرائيلي، الدكتورة إيمان بخيت، أن تصريحات سموتريتش وبن غفير بشأن ضرورة تفريغ غزة من سكانها تعبّر عن عقيدة راسخة داخل التيار الصهيوني الديني والقومي المتشدد، تقوم على رفض التعدد وتكريس مفهوم "إسرائيل الكبرى".

وأوضحت في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست" أن هذه الدعوات لا يمكن اعتبارها آراء سياسية عابرة، بل هي تحريض مباشر على ارتكاب جرائم دولية، تتناقض مع اتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وأضافت: "حين يدعو مسؤول حكومي إلى تهجير جماعي، فإن ذلك يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية، لا مجرد خطاب متطرف".

خطاب النصر كأداة لتبرير العنف 

أشارت بخيت إلى أن "الانتصار الإسرائيلي على إيران" – كما يروّج له رسميًا – يُستخدم كذريعة لتعزيز التصعيد في غزة، وتحويل العمليات العسكرية إلى وسيلة هندسة ديموغرافية مغطاة بخطاب سيادي وأيديولوجي.

وربطت الباحثة هذا المسار بواقع قطاع غزة، الذي يشهد واحدة من أعنف الأزمات النفسية والاجتماعية في تاريخه. فبحسب تقارير أممية، يعاني أكثر من 90% من أطفال غزة من اضطرابات نفسية، فيما انهار النظام التعليمي بنسبة تتجاوز 70% من البنية المدرسية.

وأكدت أن ما يجري يمثل تهديدًا وجوديًا للنظام الدولي القانوني، حيث تبدو مؤسسات الأمم المتحدة عاجزة عن فرض الحد الأدنى من المساءلة، وهو ما يشجع مزيدًا من الانتهاكات تحت غطاء الشرعية.

وفي الختام، يتفق كل من سعداوي وبخيت على أن ما يحدث في غزة يتجاوز كونه صراعًا مسلحًا إلى كونه اختبارًا حقيقيًا لفعالية النظام الدولي، وقدرته على ردع منتهكي القانون الإنساني. فمع تصاعد الخطاب الرسمي الذي يشرعن القتل والتهجير تحت راية "النصر"، يصبح الصمت الدولي شريكًا في الجريمة، والحياد موقفًا غير أخلاقي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية