وسط الركام.. نساء غزة يكافحن لتحقيق "حلم الطهي" في زمن الحرب
وسط الركام.. نساء غزة يكافحن لتحقيق "حلم الطهي" في زمن الحرب
في غزة، لم تعد مهام الطهي مجرد نشاط منزلي يومي، بل تحولت إلى معركة بقاء تخوضها النساء بكل ما يملكن من صبر ووسائل بدائية، وسط ركام البيوت، وانقطاع الكهرباء والغاز، وشحّ الطحين، وغلاء الأسعار، وتلوّث الغذاء.
شهادة خلود أبو شرار وميساء حبوش تكشف وجهًا آخر من المأساة الفلسطينية المستمرة، حيث يندمج الألم الإنساني بالحصار، ليحيل تفاصيل الحياة اليومية إلى حقل ألغام مملوء بالخطر والمجهول، بحسب ما ذكرت وكالة أنباء المرأة، اليوم الأربعاء.
خلود أبو شرار، أم لثلاثة أطفال، كانت تُقيم في منزلها المدمر بفعل غارة إسرائيلية في مارس 2024، تجد نفسها اليوم مضطرة لحرق كل ما وقعت عليه يدها لإشعال نار تطهو بها قليلاً من العدس.. ملابس، كتب دراسية، أحذية، بلاستيك، وحتى ألعاب أطفالها، تحوّلت إلى وقود في غياب الحطب وغاز الطهي.
تقول خلود بصوت خافت تغلفه الحسرة: "تعبت.. بات إشعال النار كابوسًا.. رائحة البلاستيك المحترق تدخل طعامنا، وعيوني تدمع، وصدري لم يعد يتحمل. حتى البنات، لا أدري إن كنت أطبخ لهن أم أسممهن بيدي".
هذه النيران البدائية أصابتها بالتهابات صدرية، نُقلت على إثرها إلى النقطة الطبية، ووصفت لها أدوية بالوريد لمدة أسبوع، لكن الحروق اليومية والتعرض للمواد السامة لم تتوقف، بل ازدادت مع نفاد الأثاث الذي كانت تستخدمه حطباً، حتى ولاعة النار التي كانت تُشترى سابقاً ببضعة سنتات، بلغ سعرها 20 دولاراً، ما جعل إشعال النار ترفاً لا يقدر عليه بعض النساء.
غاز مفقود وطحين مُشتبه به
تتمنى خلود أن تعود أسطوانات الغاز لقطاع غزة، فمنذ أكتوبر 2023 بات الغاز عملة نادرة، ووصل سعر الكيلو إلى 70 دولاراً قبل أن يختفي كلياً.
واليوم، تدفع النساء دولارين لصاحب الفرن كي يطهين وجبة أو يسخّنّ ماءً لطفل رضيع. في مخيمات النزوح، تتنقل النساء بين العائلات بحثًا عن نار مشتعلة يضعن فوقها قدراً يغلي.
أما الطحين، الذي كان سلاح الجوع الأول، فصار تهديدًا مختلفًا، ميساء حبوش، أم لأربعة، تؤكد أن الطحين المتوفر أخيراً فاسد، ومليء بالسوس والديدان، بل وفي بعض الحالات يحتوي حبوباً مخدرة قاتلة.
"صرنا نخاف من الطحين أكثر من الجوع"، تقول ميساء، وتضيف: "أصبحنا نطبخ العدس فقط.. فلا أحد مات من العدس، لكنه لا يكفي الأطفال".
وفي مشهد يلخص كل شيء، تشير إلى كيس دقيق كان يحمل قبل أشهر آخر أرغفة الخبز، بات اليوم مليئًا بالملابس، قائلة: "حتى أكياس الطحين غالية وثمينة اليوم.. نغسلها ونستخدمها حقائب للنزوح".
الخطر يتربص بكل وجبة
تتراكم في هذه الشهادات معاناة النساء في غزة اللواتي يُجبرن على الاختيار بين السم والجوع، وفي ظل انعدام المواد الغذائية ومراقبة ما يُباع في السوق السوداء، بات النساء خط الدفاع الأول عن أطفالهن، يواجهن الخطر دون عون أو حماية، محاولات -فقط- إبقاء أسرهن على قيد الحياة.
وتشير التقارير الصادرة عن مؤسسات إنسانية، ومنها تقرير سابق لـ"هيومن رايتس ووتش" عام 2024، أن القيود الإسرائيلية على دخول الوقود وغاز الطهي والمساعدات الغذائية أدت إلى أزمة إنسانية متفاقمة، وأن النساء يتصدرن الصفوف في محاولة التكيّف مع الكارثة.
لكن الحقيقة على الأرض أبشع من الإحصاءات، فهنا، كل وجبة طعام تُعد بمزيج من الحرق، والخوف، والدعاء.
في غزة اليوم، ليس من حق النساء أن يمرضن، أو أن يصرخن، أو حتى أن يتعبن.. لا ترف لديهن في ذلك.
خلود وميساء، وأمثالهن، يجسدن وجهًا آخر من الحصار، الوجه الذي لا تلتقطه الكاميرات، لكنه يحرق ببطء، كما تحرق القمامة لتحضير طبق عدس لأطفال باتوا يخشون رائحة "الطعام".