قوانين الطوارئ.. كيف تُقيد الحريات حتى بعد زوال الخطر؟

قوانين الطوارئ.. كيف تُقيد الحريات حتى بعد زوال الخطر؟
قوات أمنية في الشوارع بعد فرض حالة الطوارئ- أرشيف

حين تواجه الدول أزمات حادة –كحروب أو هجمات إرهابية أو كوارث صحية أو مناخية– تلجأ غالبًا إلى فرض حالة الطوارئ أو قوانين استثنائية تمنح السلطات صلاحيات واسعة لتقييد بعض الحقوق والحريات باسم حماية الأمن القومي.

لكن ما يكشفه الواقع، وفق خبراء القانون الدولي وتجارب موثقة، هو أن بعض هذه الإجراءات الاستثنائية تستمر حتى بعد انتهاء الخطر الذي استُند إليه لتبريرها لتتحول الأداة المؤقتة إلى حالة دائمة تُقيد حرية المواطنين وتعيد رسم العلاقة بين السلطة والفرد.

أمن المجتمع أم حرية الأفراد؟

يرى الخبير في القانون الدولي البروفيسور جان لوران أن أصل قوانين الطوارئ هو فكرة حماية المجتمع من خطر جسيم، لكن الإشكالية تبدأ حين يصبح الأمن الشعار المطلق لتبرير تقليص المساحات الديمقراطية، موضحاً في تصريحات إعلامية، أن هناك خطاً رفيعاً بين الإجراءات الاستثنائية المشروعة وانزلاق الدولة نحو الحكم السلطوي المستتر خلف حالة الطوارئ.

حالات ونماذج

فرنسا.. بعد الهجمات الإرهابية في باريس، أعلنت فرنسا حالة الطوارئ التي استمرت لعامين، وتم خلالها منح الشرطة صلاحيات تفتيش واعتقال موسعة دون إذن قضائي.

وعندما انتهت حالة الطوارئ رسميًا في 2017، تم نقل معظم هذه الصلاحيات مباشرةً إلى قانون مكافحة الإرهاب الدائم، لتصبح الإجراءات الاستثنائية جزءًا من التشريع العادي.

تركيا بعد محاولة الانقلاب 2016

فرضت أنقرة حالة الطوارئ لعامين، أُغلقت خلالها مئات الصحف والمؤسسات، وفُصل عشرات الآلاف من وظائفهم.

ومع انتهاء الطوارئ رسميًا في 2018، تم تعديل القوانين العادية لتُبقي كثيرًا من تلك الصلاحيات بيد السلطة التنفيذية.

الولايات المتحدة

رغم تقديمه كتدبير مؤقت، استمرت أقسام واسعة من قانون باتريوت الأمريكي لأعوام بعد هجمات 11 سبتمبر، مانحًا السلطات صلاحيات رقابية موسعة على الاتصالات والأنشطة الإلكترونية.

ولا تقتصر حالة الطوارئ على الأوضاع السياسية والأمنية بل تمتد إلى نواح أخرى حيث أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في أبريل الماضي حالة الطوارئ في البلاد بسبب الوضع الاقتصادي والعجز التجاري، وفقا لوثائق تم توزيعها في البيت الأبيض.

ومن الولايات المتحدة تقول راشيل كلاينفيلد، خبيرة الأمن القومي في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، في تصريحات أوردتها "واشنطن بوست" إن فرض حالة الطوارئ أو الأحكام العرفية، "أشياء خطيرة في ما يتعلق باللعب بها.. لا يمكنك تطبيع العمل خارج نطاق القانون والاعتقاد بأن الديمقراطية ستصمد.. الديمقراطيات هشة، حتى في بلدنا".

إسرائيل

منذ تأسيسها عام 1948، تُمدَّد حالة الطوارئ بشكل دوري حتى اليوم تقريبًا، ما يمنح الحكومة سلطات واسعة تتعلق بالرقابة، وتقييد حرية التظاهر، واعتقال إداري دون محاكمة.

المنظمات الحقوقية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية انتقدت هذه السياسات مرارًا، معتبرة أنها تتحول من حالة طارئة إلى سياسة دائمة تُستخدم خاصة ضد الفلسطينيين.

تايلاند

بعد الانقلاب العسكري عام 2014، فرض الجيش حالة الطوارئ في أنحاء البلاد، مع تعليق الدستور وحل البرلمان. استمرت هذه الحالة سنوات مع قمع الإعلام والمعارضة.

واجهت الحكومة إدانات من الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية، التي وصفت الوضع بأنه حكم عسكري مقنَّع وانتهاك صارخ للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

الفلبين

في عهد الرئيس الراحل فرديناند ماركوس (1972–1981)، فُرضت الأحكام العرفية بذريعة مواجهة خطر الشيوعية، لكن انتهت بتعزيز سلطته المطلقة، إغلاق وسائل الإعلام المستقلة واعتقال المعارضين.

اعتبرتها المنظمات الحقوقية ومن بينها منظمة العفو الدولية حالة نموذجية لاستخدام الطوارئ لتقويض الديمقراطية.

ميانمار

وفي ميانمار/ بورما فرض الجيش حالة الطوارئ لمدة عام عندما استولى على السلطة في انقلاب فبراير  2021، وأطاح بحكومة أونج سان سو كي المدنية المنتخبة مما أثار احتجاجات في الشوارع على مستوى البلاد سحقها بعنف.

ومنذ ذلك الحين، قام المجلس العسكري بتمديد الطوارئ كل ستة أشهر، حيث تحولت حركة الاحتجاج إلى تمرد مسلح واسع النطاق.

أوكرانيا

وفي أوكرانيا وافق البرلمان الأوكراني، على تمديد الأحكام العرفية والتعبئة العامة في البلاد للمرة الخامسة عشرة منذ عام 2022، وذلك حتى 6 أغسطس المقبل.

وما زالت أوكرانيا تواجه تحديات كبيرة في ظل الحرب المستمرة مع روسيا، ما يبرر استمرار الحكومة في تمديد التعبئة العامة والأحكام العرفية لتأمين استجابة فعالة لهذه التحديات الأمنية.

الجزائر

أعلنت حالة الطوارئ في 1992 عقب اندلاع العشرية السوداء (الحرب الأهلية)، واستمرت حتى 2011، حيث مكَّنت السلطات من فرض قيود مشددة على التجمعات وحرية الصحافة.

طالبت هيئات مثل اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان بإنهاء هذه الحالة وفتح الفضاء السياسي.

المغرب

فرض قانون الطوارئ الصحية منذ مارس 2020 بسبب جائحة كورونا، واستُخدم أحيانًا لتقييد المظاهرات السلمية وملاحقة معارضين.

اعتبرت المنظمات الحقوقية أن بعض استخداماته تجاوزت الغرض الصحي الأصلي

لماذا تبقى القيود؟

غالبًا تبقى القيود بعد زوال الخطر بسبب عدة أسباب مترابطة منها توسّع السلطة التنفيذية عندما توجد حالات الطوارئ تُمنح السلطة التنفيذية صلاحيات استثنائية بدعوى الحاجة السريعة لمواجهة الخطر، لكن هذه السلطات نادرًا ما تُسحب بسهولة بعد انتهاء الخطر، لأن الحكومات تميل للاحتفاظ بما اكتسبته من نفوذ، وكذلك أثناء الطوارئ، تضعف رقابة البرلمان والقضاء، وأحيانًا تُعلق كليًا، ما يتيح للسلطات إبقاء القيود أطول من اللازم، إضافة إلى ذريعة "التهديد المستمر" لأنه حتى بعد انتهاء الخطر المباشر، قد تُبرر السلطات استمرار القيود بالتحجج بوجود تهديدات أمنية جديدة أو محتملة.

وتتطلب إعادة المؤسسات والقوانين إلى ما كانت عليه قبل الطوارئ أحيانًا ترتيبات قانونية وسياسية معقدة، وقد تواجه مقاومة من الأجهزة الأمنية أو المتنفذين المستفيدين من الوضع، وبمرور الوقت، تصبح بعض التدابير الاستثنائية "معتادة" في نظر جزء من الرأي العام أو الإعلام، فيتم قبولها كأمر طبيعي رغم كونها استثناءً.

ويُلزم القانون الدولي لحقوق الإنسان الدول بإنهاء هذه التدابير الاستثنائية فور زوال الخطر الذي استُخدمت بسببه، لكن الواقع غالبًا مختلف، ولهذا تؤكد الهيئات الأممية والمنظمات الحقوقية ضرورة وجود رقابة برلمانية وقضائية صارمة وجدولة زمنية واضحة لأي إعلان طوارئ.

دروس وتجارب إصلاحية

في دول مثل إسبانيا والنرويج، يتم إلزام البرلمان بالمراجعة الدورية لحالة الطوارئ، ولا تُمدد إلا بتصويت معلل.

وتنص الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على أن القيود الاستثنائية يجب أن تكون «ضرورية ومؤقتة ومتناسبة»، مع رقابة قضائية صارمة.

وتكشف التجارب أن الخطر الأكبر ليس فقط في إعلان حالة الطوارئ، بل في استمرار قيودها حتى بعد انقضاء الخطر، ما يقوض أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان.

يبقى الدرس الأهم: القوانين الاستثنائية يجب أن تُستخدم بحذر، وتحت رقابة قوية، مع التزام واضح بعودة سريعة إلى الحياة الدستورية الطبيعية وإلا أصبحت الديمقراطية رهينة الخوف.

وبحسب القانون الدولي، خاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR): يجوز إعلان حالة الطوارئ في مواجهة خطر استثنائي يهدد حياة الأمة، لكنه يشترط أن يكون الإجراء ضروريًا ومؤقتًا، وأن يكون متناسبًا مع حجم الخطر، وألّا يمس الحقوق غير القابلة للتقييد مثل حظر التعذيب.

وقد شددت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان (وهي هيئة رقابية تابعة للأمم المتحدة) في تعليقاتها العامة على أن الطوارئ يجب أن تخضع لأقصى درجات الرقابة القضائية والبرلمانية.

موقف المنظمات الحقوقية والأممية

العفو الدولية، هيومن رايتس ووتش، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان عادةً ما تنتقدان غياب الشفافية والرقابة، واستخدام الطوارئ لقمع المعارضة أو الصحافة، وتحويل الإجراءات المؤقتة إلى قوانين دائمة.

وتعبر الأمم المتحدة وهيئاتها الحقوقية، مثل مجلس حقوق الإنسان والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، عن موقف ثابت يقرّ بأن إعلان حالة الطوارئ يجب أن يظلّ إجراءً استثنائيًا ومؤقتًا، لا يُلجأ إليه إلا في مواجهة خطر جسيم يهدد حياة الأمة.

وتشدد هذه الهيئات على أن أي تدابير استثنائية تُتخذ خلال حالة الطوارئ يجب أن تكون ضرورية ومتناسبة وغير تمييزية، مع احترام الالتزامات الجوهرية بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، والتي لا يجوز المساس بها حتى في ظروف الطوارئ، مثل الحق في الحياة وحظر التعذيب. 

وتنتقد المنظمات الأممية استمرار هذه الإجراءات بعد زوال الخطر، وتؤكد أن ذلك يقوض مبدأ سيادة القانون ويفتح الباب لانتهاكات واسعة ضد الحريات الأساسية، وتدعو بشكل مستمر إلى وجود رقابة قضائية وبرلمانية فعّالة تضمن ألّا تتحول حالة الطوارئ إلى أداة دائمة للسلطة لتقييد الحقوق.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية