"الخصوصية في زمن الذكاء الاصطناعي".. أين يقف الحق في إخفاء البيانات؟
"الخصوصية في زمن الذكاء الاصطناعي".. أين يقف الحق في إخفاء البيانات؟
مع الانفجار الهائل في قدرات الذكاء الاصطناعي، لم يعد السؤال المطروح: هل نجمع البيانات؟ بل: إلى أي مدى يحق للفرد أن يخفي بياناته أصلًا؟ من توصيات التسويق إلى أدوات المراقبة الحكومية، يقف الحق في الخصوصية اليوم على مفترق طرق غير مسبوق، في وقت تتسابق فيه الحكومات والشركات لاستخدام الخوارزميات بطرق غالبًا ما لا يدركها أصحاب البيانات أنفسهم.
وقبل سنوات، كان الجدل ينحصر في شركات الإنترنت العملاقة التي تجمع البيانات لغرض الإعلانات الموجَّهة، لكن التطورات الأخيرة في الذكاء الاصطناعي -خصوصًا مع انتشار نماذج اللغة الكبيرة (LLMs)- جعلت خوارزميات التعلم العميق قادرة على استنتاج معلومات شخصية دقيقة حتى من بيانات تبدو مجهولة الهوية.
يكفي أن تجمع خوارزمية واحدة تاريخ بحث المستخدم مع بيانات الموقع ونمط استخدام التطبيقات، حتى تتمكن من رسم بروفايل شبه كامل لحياته اليومية، ميوله السياسية، وحالته الصحية، دون أن يقدّم هو هذه البيانات بشكل مباشر.
الحق في إخفاء البيانات
ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 12) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على الحق في الخصوصية، ويحظران التدخل التعسفي في الحياة الخاصة. لكن في عصر الذكاء الاصطناعي، تواجه هذه المبادئ أزمة تطبيق حقيقية.
إلى أي مدى يمكن للمستخدم اليوم أن يطلب إخفاء بياناته؟ وما حدود حقه في أن تظل بعض معلوماته مجهولة، في وقت تعتمد فيه تطبيقات الهواتف والسيارات الذكية والأجهزة القابلة للارتداء على مشاركة البيانات لتعمل بشكل كامل؟
وحذر خبراء حقوقيون من أن غياب الأطر القانونية الملزمة سيجعل إخفاء البيانات أقرب إلى الوهم، حيث يصبح رفض المشاركة مرادفًا للعزل الرقمي، وعدم القدرة على استخدام الخدمات الأساسية.
وتشير بيانات منظمة "Privacy International" لعام 2024 إلى أن أكثر من 92% من التطبيقات الشائعة تطلب صلاحيات وصول أوسع مما هو ضروري تقنيًا، ونحو 64% من المستخدمين يقرّون بأنهم يوافقون على شروط الخدمة دون قراءتها.
وأقرّ الاتحاد الأوروبي اللائحة الأوروبية للذكاء الاصطناعي (AI Act) في 2025، وتضمّنت قواعد لتقييد الأنظمة عالية الخطورة وحماية بيانات الأفراد، في المقابل، لا تزال دول كثيرة، بينها الولايات المتحدة وأستراليا، دون قوانين فيدرالية شاملة.
ويخشى نشطاء الحقوق الرقمية أن تتحوّل الخصوصية إلى ترف لا يستطيع سوى من يمتلك المعرفة التقنية أو الموارد أن يحمي نفسه من الخوارزميات.
بين فائدة الذكاء الاصطناعي وأخطار التتبع
لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي يقدم حلولًا مفيدة من التشخيص الطبي المبكر إلى المدن الذكية، لكن المشكلة تكمن في الحجم الهائل من البيانات الشخصية الذي يحتاجه ليعمل بكفاءة، وتحول الشركات التقنية الكبرى إلى حَكَم فعلي يتحكم في من يستطيع الاختفاء رقميًا ومن لا يستطيع.
الحق في إخفاء البيانات بات يتطلب إعادة تعريف شاملة، ليس فقط حماية ما نُفصح عنه طواعية، بل أيضًا وقف قدرة الخوارزميات على الاستنتاج الآلي لمعلومات لم نكشفها، في حين يستمر الجدل الأخلاقي والقانوني، تبقى الحقيقة المؤكدة أن زمن الذكاء الاصطناعي يعيد صياغة العلاقة بين الفرد ومجتمعه الرقمي ليطرح سؤالًا جديدًا: هل سنكون قادرين مستقبلًا على امتلاك هوية خاصة فعلًا؟
موقف المنظمات الأممية والحقوقية
في عصر تتحول فيه البيانات إلى “نفط جديد”، يُدق ناقوس الخطر في المنظمات الحقوقية والأممية بشأن مصير الحق في الخصوصية، الذي كان يُعدّ حتى وقت قريب من بديهيات النظام الحقوقي العالمي.
وسلّط تقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان للأمم المتحدة الصادر في سبتمبر 2024 الضوء على تصاعد ما وصفته بـ«رقمنة الرقابة»، حيث باتت أدوات الذكاء الاصطناعي تُستخدم في مراقبة سلوك الأفراد وتحليل تحركاتهم الرقمية والمادية، دون سند قانوني أو موافقة صريحة.
وأشار التقرير إلى أن أكثر من 70 دولة باتت تعتمد على أنظمة ذكاء اصطناعي في مجالات الأمن، بينها دول لا تمتلك قوانين شاملة لحماية البيانات. ولفت إلى أن ذلك يضاعف خطر التمييز ضد الفئات المهمشة مثل اللاجئين والمعارضين السياسيين.
بدورها، كشفت منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي (2024) عن حالات موثّقة لاستخدام الذكاء الاصطناعي من قِبل شركات تكنولوجيا عملاقة لتحليل البيانات الشخصية بطرق تنتهك مبادئ الشفافية والعدالة. التقرير استشهد بدراسة أجرتها المنظمة في أوروبا، أظهرت أن 42% من المستخدمين لا يعرفون أن بياناتهم تُستخدم لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، في حين أعرب 68% عن خشيتهم سوء استخدامها.
واتهمت العفو الدولية بعض الحكومات باللجوء إلى هذه التكنولوجيا لبناء أنظمة «مراقبة جماعية مقنّعة»، ما يهدد الحق في الخصوصية المكفول بالمادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 17 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
استهداف الأقليات والمعارضين
هيومن رايتس ووتش بدورها نبّهت إلى أن غياب الضوابط القانونية يجعل الذكاء الاصطناعي سلاحًا ذا حدين. ففي تقرير نشرته في أوائل 2025، أشارت إلى أن بعض الحكومات استخدمت أنظمة التعرف إلى الوجوه لتتبع المعارضين والمتظاهرين، ما أدى إلى اعتقالات تعسفية في عدة دول آسيوية وإفريقية.
كما نبّهت المنظمة إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يعيد إنتاج الصور النمطية والأحكام المسبقة من خلال الخوارزميات نفسها، ما يؤدي لتمييز ممنهج ضد مجموعات سكانية بعينها.
الأطر القانونية
رغم اعتماد الاتحاد الأوروبي في 2024 لما يُعرف بـاللائحة الأوروبية للذكاء الاصطناعي (AI Act)، التي تُلزم الشركات بإجراء تقييمات للأثر الحقوقي للأنظمة عالية الأخطار، تُشير تقارير المنظمات الأممية إلى أن الغالبية الساحقة من دول العالم لم تعتمد بعد قوانين مماثلة.
وأشارت دراسة حديثة صادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي في نهاية 2024 إلى أن أقل من 20% من دول العالم تملك تشريعات فعّالة تضمن الشفافية والمساءلة في استخدام الذكاء الاصطناعي.
وفي آسيا، على سبيل المثال، وثّقت منظمات حقوقية استخدام الحكومة في إحدى الدول لأنظمة ذكاء اصطناعي لتتبع الحشود في أثناء مظاهرات سلمية، ما أسفر عن اعتقال مئات النشطاء، وفي أمريكا اللاتينية، أثيرت مخاوف من تعاون شركات تكنولوجيا مع جهات أمنية لتسليم بيانات المستخدمين، دون إشعارهم أو وجود أمر قضائي.
أصوات تطالب بالحماية
تتفق المفوضية السامية والعفو الدولية وهيومن رايتس ووتش على أن الحق في الخصوصية ليس مجرد مسألة فردية، بل هو صمام أمان للديمقراطية نفسها، إذ يقيّد سلطة الدولة ويمنع إساءة استخدام البيانات لقمع المعارضة أو التمييز ضد الأقليات.
وقد دعت هذه المنظمات إلى: وضع ضوابط قانونية صارمة تضمن الشفافية في جمع البيانات واستخدامها، وإلزام الشركات بإجراء تقييمات أثر حقوقي لأي نظام ذكاء اصطناعي، وإنشاء هيئات رقابية مستقلة تضمن محاسبة أي جهة تتجاوز حدود القانون.
وبين سرعة التطور التكنولوجي وبطء التشريعات، يظل الحق في الخصوصية في مهب الريح، المنظمات الحقوقية والأممية تدق ناقوس الخطر: ما لم يُسارع المجتمع الدولي إلى سدّ الثغرات القانونية، فقد نجد أنفسنا أمام واقع تصبح فيه الرقابة الرقمية جزءًا طبيعيًا من الحياة اليومية، وهو واقع لا تهدده التكنولوجيا نفسها بقدر ما تهدده إرادة توظيفها دون حدود.