أصوات منسية.. كيف يحرم الفقر الفئات الضعيفة من حقها في الصحة والتعليم؟

أصوات منسية.. كيف يحرم الفقر الفئات الضعيفة من حقها في الصحة والتعليم؟
أسرة تعاني الفقر

يُعد الفقر، بأشكاله المتعددة، أحد أخطر التحديات التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين، إنه ليس مجرد نقص في الموارد المادية، بل هو حاجزٌ يعيق الأفراد عن ممارسة حقوقهم الأساسية، وعلى رأسها الحق في العلاج والرعاية الصحية والتعليم.

ففي عالمٍ يزداد فيه التفاوت الاقتصادي اتساعًا، يجد الملايين أنفسهم محبوسين في دائرة مفرغة من الحرمان، حيث يصبح المرض مزمنًا والجهل قدرًا، وتتحول آمالهم وطموحاتهم إلى مجرد سراب.

وفي هذا التقرير تسعى "جسور بوست" لاستعراض الفقر كتهديد مباشر لحقوق الإنسان في العلاج والتعليم، مستندة إلى تقارير المنظمات الحقوقية والأممية، مع التركيز على الأبعاد الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية لهذه القضية المعقدة.

نصف العالم بلا ضمانات

تُقدر الأمم المتحدة أن نحو 1.2 مليار إنسان يعيشون تحت خط الفقر المدقع، أي بأقل من 2.15 دولار يوميًا، وفق آخر تحديثات البنك الدولي لعام 2023، في حين يؤكد تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) أن نحو نصف سكان العالم تقريبًا لا يحصلون على خدمات صحية أو تعليمية ملائمة، وأن الفقر يعمّق الفجوة بين الفئات الاجتماعية ويؤسس لأجيال جديدة من المحرومين.

ووفقًا لتقرير أصدرته منظمة أوكسفام البريطانية مطلع العام الجاري، فإن أغنى 1% من سكان العالم يمتلكون ضعف ثروة بقية العالم مجتمعة، ما يضاعف أزمات الفقر ويقوّض الجهود الدولية لتحقيق المساواة في الحقوق والفرص.

ومن بين أخطر ما يكشفه الفقر هو حرمان مئات الملايين من الحق في العلاج والرعاية الصحية، وتُشير منظمة الصحة العالمية إلى أن نحو نصف سكان العالم يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية، وأن 100 مليون شخص يُدفعون سنويًا نحو خط الفقر أو دونه بسبب نفقات العلاج من جيوبهم الخاصة.

وفي البلدان ذات الدخل المنخفض، يعني الفقر أحيانًا غياب أي تغطية تأمينية، أو حتى غياب المرافق الطبية المؤهلة أصلًا، كما تؤكد منظمة أطباء بلا حدود أن الأمراض القابلة للعلاج مثل الملاريا والدرن تحصد أرواح الفقراء بمعدلات مرتفعة بسبب نقص التمويل أو انعدام الوصول للعلاج.

التعليم.. امتياز للنخب

لم ينجُ الحق في التعليم من شبح الفقر أيضًا. تُظهر إحصاءات اليونسكو أن 244 مليون طفل ومراهق حول العالم لا يزالون خارج مقاعد الدراسة لأسبابٍ متعددة، على رأسها الفقر والصراعات، كما يُحرم ملايين آخرون من التعليم النوعي الجيد، بسبب نقص الموارد، وارتفاع التكاليف الخفية مثل النقل والزي المدرسي واللوازم.

وتكشف دراسات البنك الدولي أن الفقر غالبًا ما يُجبر الأسر على تشغيل أطفالها بدلًا من إرسالهم إلى المدارس، ما يضاعف دوامة الفقر من جيل إلى آخر. ويمثّل ذلك انتهاكًا صريحًا للمادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على أن لكل شخص الحق في التعليم.

ويشكّل القضاء على الفقر الهدف الأول ضمن أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة (2030)، لكن الأزمات العالمية المتلاحقة مثل الحروب والنزاعات والتغير المناخي والأوبئة ضاعفت الأعباء على الفقراء، وفاقمت معدلات الفقر عالميًا.

وبحسب تقارير البنك الدولي، فإن جائحة كوفيد-19 وحدها دفعت أكثر من 70 مليون إنسان للوقوع مجددًا في براثن الفقر المدقع خلال عامي 2020 و2021، كما تسببت أزمة الغذاء العالمية في تعريض أكثر من 800 مليون إنسان لخطر الجوع وسوء التغذية، ما ينعكس مباشرةً على صحتهم وقدرتهم على التعلم والعمل.

انتهاكٌ للقوانين الدولية

تنص اتفاقيات حقوق الإنسان بوضوح على الحق في مستوى معيشي كافٍ، يشمل الغذاء والكساء والمسكن والعناية الطبية والتعليم، ويُلزم العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966) الدول الأطراف بتأمين هذه الحقوق تدريجيًا لكل مواطنيها دون تمييز.

لكن الواقع يُظهر فجوةً واسعة بين الالتزامات على الورق والتطبيق على الأرض، فالعديد من البلدان النامية والفقيرة تعاني من أزمات هيكلية تحول دون تمكين الناس من الوصول إلى أبسط مقومات العيش الكريم.

ورغم ما تبذله الحكومات والمنظمات الدولية من مبادرات ومساعدات إنسانية، فإن جذور الفقر تظل عميقة، وتقول منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها السنوي إن الفقر غالبًا ما يُستخدم أداة قهر، حيث تتقاعس بعض الحكومات عن الاستثمار في الصحة والتعليم، أو تحجب الخدمات عمداً عن فئات معينة بدوافع سياسية أو عرقية أو دينية.

ويشدد تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) على أن العدالة الاجتماعية تتطلب إعادة هيكلة الأنظمة الاقتصادية بما يضمن توزيعًا عادلًا للثروات وتوفير فرص العمل والحد من الفساد.

تقارير أممية وحقوقية

دائمًا ما تُصدر المنظمات الأممية والمنظمات الحقوقية تقارير دورية تُسلط الضوء على العلاقة بين الفقر وانتهاك حقوق الإنسان في العلاج والتعليم، فتقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، على سبيل المثال، يُشدد باستمرار على أن الفقر ليس مجرد مشكلة اقتصادية، بل هو انتهاك مباشر للكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية. ويُطالب التقرير الدول بوضع سياسات اجتماعية واقتصادية تُعالج الأسباب الجذرية للفقر وتُعزز من الوصول العادل إلى الخدمات الأساسية.

منظمات مثل أوكسفام (Oxfam) ومنظمة العفو الدولية (Amnesty International) تُبرز في تقاريرها أن التفاوت الاقتصادي المتزايد يُفاقم من مشكلة الفقر ويعوق جهود مكافحته. وتُشير هذه التقارير إلى أن النظم الضريبية غير العادلة والفساد ونقص الاستثمار في الخدمات العامة تُسهم جميعها في استمرار حلقة الفقر والحرمان.

كما تُركز هذه المنظمات على ضرورة توفير شبكات الأمان الاجتماعي، مثل برامج التحويلات النقدية المشروطة وغير المشروطة، والتأمين الصحي الشامل، والتعليم المجاني الجيد، كآليات أساسية للتخفيف من حدة الفقر وضمان تمتع الجميع بحقوقهم.

أبعاد متعددة

الأثر على الفئات الضعيفة: يُؤثر الفقر بشكل خاص على الفئات الأكثر ضعفًا مثل النساء والأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة والأقليات. فالنساء، على سبيل المثال، يواجهن عقبات إضافية في الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم بسبب التمييز الجنسي والأعراف الاجتماعية.

تغير المناخ والفقر: تُشير العديد من الدراسات إلى أن تغير المناخ يُفاقم من مشكلة الفقر، خاصةً في المناطق التي تعتمد على الزراعة. فالكوارث الطبيعية مثل الجفاف والفيضانات تُدمر سبل العيش وتُجبر المجتمعات على النزوح، مما يزيد من الضغط على الخدمات الأساسية ويُعيق الوصول إلى العلاج والتعليم.

النزاعات المسلحة والفقر: تُسهم النزاعات المسلحة في تفاقم الفقر وانتشار الأمراض وتدمير البنية التحتية التعليمية والصحية. فالمناطق المتأثرة بالنزاعات تشهد نزوحًا جماعيًا، وتوقفًا للمدارس والمستشفيات، مما يُجرد السكان من حقوقهم الأساسية.

دور التكنولوجيا: يمكن أن تلعب التكنولوجيا دورًا مزدوجًا، فمن ناحية، يمكن أن تُسهم في تعزيز الوصول إلى التعليم عن بعد والرعاية الصحية الرقمية في المناطق النائية، ومن ناحية أخرى، يمكن أن تُعمق الفجوة الرقمية وتُحرم الفقراء من الاستفادة من هذه الفرص إذا لم تتوفر البنية التحتية والقدرة على تحمل التكاليف.

دعوات لسياسات أكثر عدلاً

يؤكد خبراء التنمية وحقوق الإنسان أن القضاء على الفقر ليس مهمة مستحيلة، بل هو قرار سياسي بالدرجة الأولى، إذ يطالبون بزيادة موازنات التعليم والصحة، وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية، وفرض ضرائب عادلة على الثروات الكبرى، ووضع حد للتلاعب الضريبي الذي يحرم الدول من مليارات الدولارات سنويًا.

كما يوصي البنك الدولي بضرورة الاستثمار في التعليم الأساسي والمهني، وتحسين البنى التحتية الصحية في المناطق الفقيرة، كأحد أكثر الحلول فعالية لكسر حلقة الفقر.

وقد يبدو القضاء على الفقر حلمًا بعيد المنال وسط الأزمات والتحديات المتصاعدة، لكن تجارب بعض الدول أظهرت أن الاستثمار الجاد في التعليم والصحة والحماية الاجتماعية قادر على رفع ملايين الناس من الفقر إلى الاكتفاء، فالدول الإسكندنافية مثلًا تقدّم نماذج ناجحة لكيفية تقليص الفجوة بين الطبقات من خلال نظم ضريبية عادلة وخدمات عامة قوية.

وتظل الإرادة السياسية محركًا رئيسيًا لإعادة رسم خريطة العالم نحو عدالة حقيقية، تُترجم فيها نصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى واقع يلمسه أفقر الفقراء قبل أغنى الأغنياء.

ولا يمكن فصل الفقر عن باقي حقوق الإنسان؛ فهو عدو صامت ينخر في الأسس التي تقوم عليها الكرامة الإنسانية، وبينما يستمر ملايين البشر في النضال اليومي للبقاء على قيد الحياة، يبقى الأمل معلّقًا على وعي عالمي أكبر بأن الحق في التعليم والعلاج ليس ترفًا، بل جوهر إنسانية الإنسان.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية