فضل شاكر بين أحكام الإرهاب ودعوات التبرئة.. هل يصبح الفن جواز عبور للإفلات من العقاب؟

فضل شاكر بين أحكام الإرهاب ودعوات التبرئة.. هل يصبح الفن جواز عبور للإفلات من العقاب؟
المطرب اللبناني، فضل شاكر

عادت قضية الفنان اللبناني فضل شاكر مجددًا إلى صدارة الجدل اللبناني والعربي، ليس من بوابة الغناء وحدها، بل من عمق النقاش الأخلاقي والقانوني حول مدى أحقية فنانٍ فارّ من وجه العدالة في استئناف نشاطه الفني وكأن شيئًا لم يكن، في حين لا تزال ملفات شاكر القضائية مفتوحة منذ أكثر من عقد.

أعادت أغنيته الجديدة "كيفك عا فراقي"، التي جمعته بابنه محمد، إشعال النقاش الشعبي والقانوني بعد أن حققت أكثر من 3 ملايين مشاهدة على "يوتيوب" خلال 24 ساعة، وتصدّرت قوائم التريند في لبنان وعدة دول عربية.

ولا يزال شاكر، بحسب مصادر قضائية نقلت عنها صحيفة "الشرق الأوسط"، مطلوبًا للقضاء العسكري اللبناني الذي أصدر بحقه خمسة أحكام غيابية تراوح بين 5 سنوات و15 سنة أشغالاً شاقة، في قضايا تتصل بتشكيل مجموعات مسلحة وتمويلها خلال فترة انخراطه في جماعة الشيخ أحمد الأسير قبيل معركة عبرا عام 2013.

ومع أن المحكمة العسكرية كانت قد برّأته عام 2018 من تهمة قتل عناصر الجيش اللبناني، فإن ذلك لم يُغلق ملفه بالكامل، إذ لا تزال الأحكام الأخرى سارية، ما يعني أنه لا يزال يُعد فاراً من وجه العدالة.

ورغم مطالباته المتكررة في بيانات رسمية باعتباره مواطناً عادياً لا رمزاً سياسياً، لا يزال القضاء يطالبه بتسليم نفسه لإعادة محاكمته وفق الأصول، إذ إن القضاء العسكري لا يُقرّ بالتسويات، بل يبتّ بالقضايا عبر محاكمات علنية وإجراءات قانونية متكاملة.

انقسام شعبي وجدل قانوني

أثارت عودة شاكر الفنية انقساماً واسعاً في الشارع اللبناني وعلى منصات التواصل الاجتماعي، بين من يراه ضحية مرحلة سياسية ضبابية تستدعي منحه فرصة جديدة، ومن يرفض أي تطبيع مع فكرة الإفلات من العقاب. 

ويعد الفريق الثاني الاستمرار في بث أغانيه أو التعامل معه فنياً يشكل إهانة لدماء شهداء الجيش في معركة عبرا، ويقوّض مبدأ المساواة أمام القانون.

وفي المقابل، ترى شريحة من محبيه أن شهرة شاكر لا تمحو ماضيه، لكنها يجب ألّا تسلبه حقه في التعبير، خصوصاً أنه لم تثبت مشاركته المباشرة في القتل أو التخطيط للعمليات العسكرية، بحسب إفادات من شهود قدمت خلال محاكمات سابقة. 

ويذهب هذا التيار إلى اعتبار شاكر انفصل عن الأسير قبل اندلاع المعركة، وأن قضيته باتت مُسيّسة أكثر منها قانونية.

وفي بيانات سابقة، ادعى شاكر أنه تعرض لمحاولات ابتزاز مالي من قبل مسؤولين في أجهزة رسمية، تفاوتت مطالبهم بين مليوني وخمسة ملايين دولار مقابل تسوية ملفه، كما أشار إلى أن ممتلكاته وأموال عائلته ما تزال محجوزة، رغم ثبوت ملكيتها لهم.

وتؤكد مصادر قانونية أن الأحكام الغيابية لا تُلغى إلا في حال مثول المتهم أمام القضاء، ما يتيح له فرصة الدفاع عن نفسه وإعادة النظر في التهم كافة، وترى تلك المصادر أن القوانين اللبنانية لا تحظر الإنتاج الفني لشخص مدان، لكنها تترك الباب مفتوحاً أمام السلطة القضائية لاتخاذ إجراءات في حال المساس بالنظام العام أو بكرامة الضحايا.

حرية التعبير وموجبات العدالة

تقرير صادر عن "مؤسسة سمير قصير لحرية التعبير" صنف قضية فضل شاكر ضمن ما يُعرف بـ"إشكالية التوازن بين الحق في التعبير وموجبات العدالة الجنائية"، موضحاً أنه لا نص قانونياً يمنع الظهور الفني لشخص مُدان غيابياً، إلا أن ذلك يفتح نقاشاً حساساً حول الأخلاقيات العامة، والتضامن مع القانون والمؤسسات.

وفي تصريحات إعلامية سابقة، اعتبرت المحامية مي الخنسا، التي تولت الدفاع عن شاكر سابقًا، أن موكلها يُستهدف في حملة ممنهجة لتسييس ملفه، على الرغم من "توفر قرائن تؤكد انفصاله عن جماعة الأسير قبل المعركة".

ورغم الجدل القانوني، حافظ شاكر على قاعدة جماهيرية كبيرة، بل شهدت أغنياته الأخيرة تصاعداً في نسب الاستماع. بحسب بيانات موقع SocialBlade، حققت قناته على يوتيوب أكثر من 150 مليون مشاهدة خلال العامين الماضيين، في حين يتابعه أكثر من 1.2 مليون شخص على "إنستغرام"، ما يؤكد أن حضوره الفني لا يزال مؤثراً في المشهد العربي.

ويبقى فضل شاكر حالة فريدة في تداخل الفن بالقانون، والشهرة بالمساءلة، وبين مؤيد يطالب بعودته إلى الساحة الفنية كونه فناناً مظلوماً، ورافض يعده فاراً يجب أن يُحاكم، يظل السؤال الجوهري معلقاً: هل تُغني الموهبة عن العدالة؟ وهل نملك ترف الفصل بين الفنان والإنسان حين يكون القانون هو الفيصل؟

جدل الفن والعدالة

قالت الناقدة الفنية والكاتبة هويدا الحسن، إن الفنان فضل شاكر لا يمكن اختزاله في لحظة واحدة من حياته، ولا في عنوان إخباري، ولا حتى في حكم غيابي، إنّه، قبل كل شيء، صوت استثنائي، وتجربة فنية مغايرة أثّرت بعمق في الوجدان العربي، ولامست مشاعر الناس بلغتها البسيطة، وألحانها الصادقة، ونبرتها التي جمعت بين الحنين والشجن، وهذه الحقيقة، كما تضيف، لا يلغيها الجدل، ولا تمحوها التحوّلات الدراماتيكية التي طرأت على مسيرته لاحقًا، فالرجل كان -ولا يزال- يمتلك موهبة نادرة منحته مكانة متقدمة في المشهد الغنائي العربي، يصعب تجاهلها أو تجاوزها.

وأضافت الحسن في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الانقسام الشعبي والإعلامي حول عودته إلى الغناء هو أمر طبيعي ومتوقع في ظل التباينات الحادة بين من يرى فيه فناناً مظلوماً له الحق في استعادة مكانته، ومن يعدّه شخصًا لم يُصفِّ حسابه مع العدالة بعد، ولا يستحق إعادة دمجه في الحياة العامة قبل خضوعه لمحاكمة شفافة وعادلة.

وترى الحسن أن جوهر الانقسام لا يرتبط بالكفاءة الفنية أو القدرة على الغناء، بل في الخلفية الفكرية والدينية التي عبّر عنها فضل شاكر في فترة من حياته، والتي ترافقت مع خطاب عنيف أو راديكالي، أثار مخاوف واسعة، وترك جرحًا في الذاكرة العامة. 

وتابعت: "ليس من العدل تصنيف هذا الانقسام بين صواب وخطأ. فبعضهم يرى فيه إنسانًا تغيّر وتراجع، ويستحق فرصة جديدة. وآخرون، وهم محقّون أيضًا، يرفض غضّ الطرف عن ماضيه، ويرى في دعمه نوعًا من التطبيع مع الفكر المتطرف. كلا الموقفين مشروع، ولا بد من احترامه".

وفي ما يتعلّق بموقف المنصات الإعلامية والفنية من إعادة تسليط الضوء على أعماله الجديدة، ترى الحسن، أن هذه المنصات ليست في موقع المحاسبة القانونية أو الأخلاقية للفنان ما دام ينتج فنًا رفيع المستوى، لا يتضمن تحريضًا ولا انتهاكًا لكرامة الناس. "المسؤولية الأخلاقية لتلك المنصات تكون عندما تروج للابتذال أو الرداءة، أو تنشر أسماء لا تستحق الوصول إلى الجمهور. أما حين يتعلق الأمر بفنان يُنتج فناً راقياً، فإن الاحتفاء به يخضع لمعايير فنية، لا سياسية"، تقول الحسن.

وعبرت الحسن عن اعتقادها بأن التناقضات القانونية المحيطة بفضل شاكر، سواء ما تعلق بالأحكام الغيابية الصادرة بحقه، أو الروايات المختلفة حول براءته أو إدانته، لا تترك أثراً نفسياً عميقًا في شريحة كبيرة من جمهوره، ولا سيما الشباب الذين يستهلكون الفن من باب التذوق الجمالي لا السياسي أو القانوني، "الناس منقسمة، هذا صحيح. لكن جمهور فضل شاكر العاطفي سيظل وفيًا له، كما أن رافضيه سيظلون على موقفهم حتى لو صدر حكم بتبرئته الكاملة"، تشرح.

وقالت إننا بحاجة إلى مقاربة أكثر نضجًا لقضية فضل شاكر، مقاربة لا تستخفّ بمشاعر الضحايا، ولا ترفض التوبة أو التغيير. "القانون يجب أن يأخذ مجراه، لكن المجتمع أيضًا يملك حقه في الغفران أو في الرفض، والفن، بصفته لغة الشعوب، قد يكون الحيّز الأرحب الذي يسمح بطرح كل هذه الأسئلة من دون خوف، ومن دون يقين مسبق".

فضل شاكر بين الفن والعدالة

قالت خبيرة حقوق الإنسان الدكتورة أسماء رمزي، إن قضية الفنان اللبناني فضل شاكر لا تزال تشكّل نموذجًا صارخًا لصراع الهوية اللبنانية بين الفن والسياسة والأمن، حيث تلتقي تناقضات القانون مع مزاج الشارع، وتختلط الحرية الإبداعية بأسئلة العدالة، في مشهدٍ يعكس هشاشة منظومة القيم والمعايير في بلدٍ تتداخل فيه الخطوط الحمراء مع الشعارات الفضفاضة.

وعدّت رمزي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الظهور العلني الأخير للفنان فضل شاكر من داخل مخيم عين الحلوة، عبر إصدار مجموعة من الأغاني الجديدة، يعيد إلى الواجهة جدلاً مجتمعياً وقانونياً وأخلاقياً لا يقلّ سخونةً عن أصوات الرصاص التي ارتبط اسمه بها في معركة عبرا.

وأوضحت أن المشهد اللبناني اليوم منقسم بحدة حيال فضل شاكر، فهناك من يرى أنه فنان "مظلوم" دفع ثمن مواقفه، وله الحق في التعبير عن نفسه واستئناف نشاطه الفني طالما لم تُثبت إدانته بشكل نهائي، في حين يقف الطرف الآخر عند محطات دموية لا تُنسى، مستنكرًا أي محاولة لتقديمه بصورة الضحية أو منحه منصة فنية دون أن يمثل أمام القضاء، في قضايا تمسّ أرواح ضباط وجنود ومدنيين لبنانيين.

ورأت رمزي، أن ما يزيد القضية تعقيدًا هو التشابك بين المعايير القانونية والأخلاقية، فشاكر محكوم عليه غيابيًا من القضاء اللبناني بتهم خطِرة، أبرزها الانتماء إلى جماعة مسلّحة والمشاركة في أعمال عنف أسفرت عن مقتل جنود، ما يضعه قانونًا في خانة المتهمين الفارين من العدالة. وأشارت إلى أن الظهور الفني في هذه الحالة قد يُفهم كنوع من التملص من المساءلة، أو حتى تحدٍ صريح لمشاعر الضحايا وثقة الناس بالقانون.

وشددت الخبيرة الحقوقية على أن دعم شريحة من الجمهور لفضل شاكر يُعبّر عن مفارقة مؤلمة في الذهنية العربية، التي تفصل أحيانًا بين الفن وسلوك الفنان، وكأن الإبداع يشفع للانحراف، مضيفة أن هذا الانقسام يعبّر عن ازدواجية أخلاقية مقلقة، ويدل على هشاشة في البوصلة المجتمعية، حيث يُكرّم من لم يعتذر بعد، ويُنسى من قُتلوا دون محاسبة للفاعل.

وربطت رمزي بين هذه القضية وظاهرة أوسع في المجتمعات العربية، حيث يرتبط الإبداع غالبًا بـ"السمعة الشخصية" للفنان، موضحة أن في السياق اللبناني، تتشابك القضايا الفنية مع أبعاد سياسية وأمنية، ما يُنتج حالة من تسييس الذاكرة الجماعية، تتحكم بها الانتماءات، وتعيد إنتاج الانقسامات تحت ستار الثقافة والفن.

وانتقدت رمزي ما وصفته بـ"العدالة الانتقائية" التي تقوّض ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة، مؤكدة أن عودة شاكر إلى الساحة الفنية دون محاكمة علنية أو قرار قضائي نهائي تُغذي الشكوك حول وجود تفاهمات غير معلنة، أو تمييز لأجل شخصيات معروفة على حساب مبدأ المساواة أمام القانون. 

وفيما يخص ذوي الضحايا، اعتبرت رمزي أن قضية فضل شاكر تعيد فتح جراح ما زالت نازفة منذ معركة عبرا عام 2013، والتي راح ضحيتها عدد من جنود الجيش اللبناني، بينهم من لم يُعثر على جثامينهم حتى اليوم، مؤكدة أن أي عودة لشاكر إلى الضوء دون اعتراف واضح أو محاسبة علنية تمثل خيانة للذاكرة الجماعية، وتضع الدولة في موقف المتواطئ أو العاجز أمام دماء أبنائها.

وخلصت رمزي إلى أن ما نشهده ليس فقط جدلًا حول فنان، بل صراع مستتر بين قيم متنافرة: حرية الإبداع مقابل المساءلة القانونية، التسامح مقابل العدالة، التعاطف الشعبي مقابل جراح الضحايا. ودعت إلى تسوية قانونية عادلة وشفافة، تضمن مثول فضل شاكر أمام القضاء علنًا لوضع حد لهذا الجدل المتصاعد، وتؤسس لمبدأ لا يُفرّق بين فنان أو مواطن عادي أمام العدالة.

وشددت على ضرورة إطلاق حوار وطني موسّع حول حدود الإبداع ومسؤولية الفنان الأخلاقية والاجتماعية، ووضع معايير واضحة للتعامل مع الشخصيات العامة التي تورّطت في ملفات جنائية أو أمنية، دون الوقوع في فخ التبرير أو التجييش.

واختتمت بالقول إن إصلاح القضاء وتعزيز الشفافية وتحرير العدالة من الضغوط السياسية هو السبيل الوحيد لاستعادة ثقة المواطنين، وإنهاء حالة "الاستثناء" التي تحوّل الجريمة إلى مادة فنية، والمعاناة إلى مجرد خلفية صوتية.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية