تصاعد هجمات المستوطنين بالضفة الغربية.. تهديد متفاقم للوجود الفلسطيني
تصاعد هجمات المستوطنين بالضفة الغربية.. تهديد متفاقم للوجود الفلسطيني
تعيش الضفة الغربية المحتلة منذ أشهر موجة غير مسبوقة من العنف المنظم الذي ينفذه مستوطنون إسرائيليون ضد الفلسطينيين، وسط حماية أو تواطؤ من قوات الجيش الإسرائيلي، ما فاقم معاناة المدنيين وأثار قلقًا دوليًا متزايدًا بشأن مصير الحقوق الفلسطينية والوجود الديمغرافي الفلسطيني في هذه المناطق الحيوية.
فوفقًا لتقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) الصادر في يونيو 2025، شهد النصف الأول من هذا العام وحده نحو 1220 هجومًا نفذه مستوطنون ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم، مقارنةً بـ1090 هجومًا خلال الفترة نفسها من عام 2024، ما يعكس تصاعدًا مطّردًا للعنف بنسبة تقترب من 12%.
هذه الهجمات شملت الاعتداء الجسدي المباشر، حرق المنازل والمركبات، اقتلاع أشجار الزيتون، وإطلاق الرصاص الحي الذي أدى إلى مقتل وإصابة عشرات الفلسطينيين، بينهم نساء وأطفال.
عائلات بلا مأوى وقرى مهددة بالزوال
وراء الأرقام تكمن قصص مأساوية لعائلات فقدت بيوتها أو مصدر رزقها الوحيد، فقد شهدت قرى مثل عين سامية والجبعة والمغير اعتداءات دفعت سكانها للنزوح القسري، وسط خشية المنظمات الحقوقية من أن يكون ذلك جزءًا من سياسة أوسع لدفع الفلسطينيين خارج مناطق استراتيجية في المنطقة «ج»، التي تمثل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية وتقع تحت السيطرة الإدارية والأمنية الإسرائيلية الكاملة بموجب اتفاقيات أوسلو.
وتوثق منظمات حقوقية محلية مثل "بتسيلم" و"ييش دين" أن اعتداءات المستوطنين غالبًا ما تحدث بحماية الجيش الإسرائيلي أو في ظل عدم تدخله الفعّال، ما يجعل الإفلات من العقاب هو القاعدة وليس الاستثناء.
ويرى مراقبون أن هذه الهجمات لا تتم بمعزل، بل تتصل بمساعٍ لفرض وقائع ميدانية تعرقل أي إمكانية مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا.
الاستيطان كأداة سيطرة
تعود جذور الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية إلى ما بعد حرب 1967، عندما بدأت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بناء المستوطنات لأهداف سياسية ودينية وأمنية، اليوم، يعيش أكثر من 700 ألف مستوطن في أكثر من 280 مستوطنة وبؤرة استيطانية، وفق إحصاءات حديثة من مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم).
في العقود الماضية، شكل الاستيطان بؤرة توتر دائم، لكن السنوات الأخيرة شهدت تحولًا نوعيًا تمثل في تصاعد قوة التيارات الدينية والقومية المتشددة داخل الحكومة الإسرائيلية، ما وفر غطاءً سياسيًا غير مسبوق للمستوطنين لتوسيع نشاطاتهم الاستيطانية والهجمات على الفلسطينيين.
ومن منظور إنساني، تؤدي هذه الاعتداءات إلى تهجير قسري لسكان الريف الفلسطيني، إذ وثقت الأمم المتحدة نزوح أكثر من 1200 فلسطيني في النصف الأول من عام 2025 نتيجة العنف الاستيطاني وهدم المنازل بحجة البناء غير المرخص، وهذا النزوح القسري لا يعني فقط فقدان مأوى، بل يعني أيضًا خسارة الأراضي الزراعية التي تمثل مصدر الرزق الأساسي، وتمزيق العلاقات المجتمعية والروابط العائلية التي حافظت على تماسك القرى لعقود.
أما من الناحية الحقوقية، فإن تصاعد هجمات المستوطنين يمثل انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني، خاصة اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر على قوة الاحتلال نقل سكانها المدنيين إلى الأراضي المحتلة أو تهجير السكان الأصليين منها بالقوة.
إفلات المستوطنين من العقاب
تقارير منظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" تؤكد أن الاعتداءات لا تُقابل غالبًا بتحقيقات جادة من السلطات الإسرائيلية، فعلى سبيل المثال، أشارت بيانات منظمة "ييش دين" لعام 2024 إلى أن نحو 93% من الشكاوى المقدمة ضد مستوطنين بتهم الاعتداء على فلسطينيين تم إغلاقها دون توجيه اتهامات.
يرى خبراء أن هذا الإفلات من العقاب يعزز شعور المستوطنين بالحصانة ويشجع على المزيد من العنف، بينما يفقد الفلسطينيون الثقة في النظام القانوني الإسرائيلي وقدرته على حمايتهم.
وأدانت الأمم المتحدة ودول أوروبية عديدة مؤخرًا تصاعد هجمات المستوطنين، واعتبرتها عقبة أساسية أمام السلام العادل، ومع ذلك لا تزال الإجراءات العملية محدودة، إذ يقتصر معظمها على بيانات شجب أو قيود محدودة على التعامل مع بعض المستوطنين المتطرفين.
وفي المقابل، يرى بعض المحللين أن استمرار البناء الاستيطاني والهجمات يخلق حقائق ديمغرافية تجعل حل الدولتين أكثر صعوبة، ويزيد من احتمال التحول نحو نظام فصل عنصري، وهو ما حذرت منه بالفعل تقارير أممية وحقوقية في السنوات الأخيرة.
مخاوف من انفجار أوسع
في ظل الانقسام الفلسطيني الداخلي، واستمرار الدعم السياسي لبعض القوى الإسرائيلية للأنشطة الاستيطانية، تبدو الأفق قاتمة، ويخشى مراقبون أن يؤدي تصاعد الهجمات إلى اندلاع مواجهات أوسع أو انتفاضة جديدة، خاصة مع تفاقم معاناة الفلسطينيين الاقتصادية والاجتماعية نتيجة القيود المفروضة على التنقل والاقتصاد.
وفي غياب تدخل دولي فاعل وضغوط حقيقية تلزم إسرائيل باحترام التزاماتها القانونية، تبدو حقوق الفلسطينيين في الضفة الغربية مهددة أكثر من أي وقت مضى، بينما يبقى ملايين المدنيين رهائن لعنفٍ يوميٍ يتجاوز كونه مجرد أرقام في تقارير حقوقية، ليشكل جرحًا مفتوحًا في الضمير الإنساني.