طائرة الموت.. الأرجنتين تُواجه أشباح ماضيها وتُقيد ذاكرة شعبها

طائرة الموت.. الأرجنتين تُواجه أشباح ماضيها وتُقيد ذاكرة شعبها
احتجاجات أمهات بلازا دي مايو على إصلاحات الرئيس خافيير ميلي في بوينس آيرس

على مدرج خرساني داخل موقع كان ذات يوم أكاديمية بحرية في أحد أحياء بوينس آيرس، تقف طائرة رمادية لؤلؤية من طراز سكاي فان PA-51، تبدو ساكنة، بلا حراك، كما لو أنها جزء من معرض طائرات قديم، لكنها في الواقع، شاهدة صامتة على واحدة من أبشع الفصول في تاريخ الأرجنتين، بل ربما أكثرها إيلامًا.

هذه الطائرة لم تكن تنقل ركّابًا عاديين، بين عامي 1976 و1983، كانت وسيلة قتل ممنهجة استخدمها النظام العسكري للتخلص من "أعداء الدولة" وفق تقرير نشره موقع "genocidewatch"، اليوم الأربعاء، حيث كانوا يُؤخذون إلى ارتفاع عشرة آلاف قدم فوق المحيط الأطلسي، ثم يُلقون أحياء منه إلى مصير مجهول، في رحلات باتت تعرف لاحقاً بـ"رحلات الموت"، والتي حوّلت السماء إلى مسرح للإعدام، والبحر إلى مقبرة بلا شواهد.

رحلات بلا عودة

استغرق الأمر عقودًا حتى كشفت بعض خيوط هذه الجرائم الصحفية والناجية ميريام لوين، التي ذاقت هي نفسها قسوة سجون النظام، فلم تترك طائرة "سكاي فان" تمضي طي النسيان، تتبعت سجلاتها، دققت في تفاصيل رحلاتها، ونجحت أخيرًا في إثبات ما ظلّ لعقود جزءًا من الذاكرة الجماعية الصامتة.

بين من صعدوا على متن تلك الطائرة في ديسمبر 1977 كانت هناك 12 امرأة، منهن راهبتان فرنسيتان، لم يعد أي منهن.. وبفضل سجلات الرحلات أدركت لوين أنهن كُنّ ضحايا إحدى "رحلات الموت".

وقالت لوين في مقابلة مؤثرة مع برنامج 60 دقيقة، "لم يُريدوا أن يتركوا خلفهم أي أثر، لا جثث، لا قبور، لا أدلة تُدينهم".

ولكن الوحشية لم تتوقف عند القتل، بل كانت هناك جرائم من نوع آخر، تُمارس في الظل، فالحوامل اللاتي اعتُقلن، وُلدن أطفالهن في الأسر، ثم اختُطف هؤلاء الرُضّع وأُعطوا لعائلات عسكرية أو مؤيدة للنظام، هكذا تحوّل الخطف إلى سياسة دولة وقتذاك.

غييرمو بيريز رويسنبليت، أحد هؤلاء الأطفال المسروقون، عاش عشرين عامًا في كنف عائلة لم تكن عائلته، حين اكتشف الحقيقة، قال: "في تلك اللحظة، شعرت أن كل ما يربطني بالعالم قد انقطع، كنت وحيدًا تمامًا".

من سجن إلى متحف

المكان الذي كانت تُدار فيه هذه الانتهاكات كان يُعرف بـ"إيسما"، وهو اسم يختصر الأكاديمية البحرية التي حُوّلت إلى مركز احتجاز وتعذيب، ومن هناك خرجت آلاف القصص التي لا تزال تنتظر العدالة.

اليوم، أصبح الموقع متحفًا للذاكرة، ومقرًا لجمعيات مثل "أمهات بلازا دي مايو" و"جدّات بلازا دي مايو"، التي تديرها نساء لم يتوقفن عن البحث عن الحقيقة، وعن الجثث، وعن الأحفاد المفقودين.

من خلال اختبارات الحمض النووي، استطاعت "جدّات بلازا دي مايو" حتى الآن العثور على 139 طفلًا من الأطفال المسروقين، لكن المعركة لم تنتهِ، فالمئات لا يزالون في طيّ النسيان، ينتظرون أن تُكشف هويتهم.

إحدى هؤلاء الجدّات، "إستيلا دي كارلوتو"، وجدت حفيدها بعد عقود من البحث، أنجبته ابنتها لورا في الأسر قبل أن تُقتل، في مقابلة أجرتها قبل تولي خافيير ميلي رئاسة الأرجنتين، أكدت أن الدعم الحكومي هو شريان الحياة لجهودهن المستمرة، لكن ذلك الشريان قُطع فجأة.

تفكيك مؤسسات الحقوق

منذ تولّي الرئيس ميلي الحكم في الأرجنتين، أُعلن تقشف قاسٍ شمل كل القطاعات، حتى تلك التي تحفظ الذاكرة وتلاحق العدالة، وفي ديسمبر الماضي، بدأت الحكومة بحملات تسريح جماعي للموظفين في المؤسسات الحقوقية، والأرشيفات، والمتاحف، والهيئات التي تُحقق في جرائم الديكتاتورية.

فُصِل أكثر من نصف موظفي أمانة حقوق الإنسان، الأرشيف الوطني للذكرى –القلب الذي ينبض بوثائق الدولة السوداء– لم يبقَ فيه سوى ثلاثة موظفين، كما أُغلق مركز هارولدو كونتي الثقافي، وسُرّح العشرات من الباحثين، وأُوقف الدعم تمامًا لمنظمات مثل "جدّات بلازا دي مايو".

وزير العدل نفسه وصف هؤلاء الجدّات بأنهن "احتيال"، وعلّق جميع أشكال التمويل لهن.

لم يتلقَّ المتحف، ولا أرشيف الذاكرة، أي تبرير رسمي، وكأن الدولة قررت أن تمحو ذاكرتها، وتُطفئ شموع الضحايا، وتُسكت صوت الجدّات اللواتي يصرخن منذ نصف قرن: أين أبناؤنا؟ أين أحفادنا؟

الشموع التي لا تنطفئ

في يناير الماضي خرج الآلاف في مظاهرة ضخمة أمام موقع إيسما، وكانت ميريام لوين بين المتظاهرين، حيث حملوا الشموع، وغنّوا، وقرؤوا الشعر، ورقصوا، لكن كل ما فعلوه كان يصرخ بنداء واحد: "لا تنسوا".

حين أُضيئت الطائرة الرمادية التي استخدمت في رحلات الموت، وقفت لوين تنظر إليها، ولكنها من وجهة نظرها لم تكن مجرد قطعة حديد، قائلة "إنها رمز.. إنها دليل حي على إرهاب الدولة".

وتقول ميريام لوين اليوم: "لو استطعت التحدث إلى الرئيس ميلي ونائبته، لطلبت منهما التوقف عن تدمير كل ما بنيناه، لدينا جدّات يبحثن عن أحفادهن.. من فضلكم، أظهروا بعض التعاطف".

وفي الأرجنتين اليوم، لا يُخشى فقط من نسيان الماضي، بل من إعادة كتابته بلا شهود.

لكن كل جدّة ما زالت تبحث عن حفيدها، وكل شمعة أُضيئت قرب الطائرة، وكل صفحة في الأرشيف، تقول بصوت لا يمكن تجاهله: "لن تُنسى الحقيقة.. ولن تُدفن الذاكرة".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية