ثلاثة ملايين مدمن.. كيف تحوّلت الأقراص المهلوسة إلى وباء صامت في الجزائر؟
ثلاثة ملايين مدمن.. كيف تحوّلت الأقراص المهلوسة إلى وباء صامت في الجزائر؟
تفاقم لافت في معدلات تعاطي المخدرات تشهده الجزائر وفق تقديرات رسمية وإعلامية محلية تشير إلى اتساع الدائرة لتشمل القاصرين والبالغين مع انتشار واسع لأصناف عدة من المخدرات، من القنب الهندي إلى المؤثرات العقلية وحتى الكوكايين.
خلف هذا المشهد أرقام صادمة وعمليات ضبط قياسية وإصلاحات قانونية متسارعة، وفي المقابل مطالب حقوقية وصحية باعتماد نهج يوازن بين الردع والعلاج والوقاية.
تفيد تقارير صحفية جزائرية نقلا عن المرصد الوطني لمكافحة المخدرات والإدمان ومختصين بأن عدد من يتعاطون أو يعانون اضطرابات استخدام المخدرات قد يربو على ثلاثة ملايين شخص في عموم البلاد، مع تزايد لافت بين الفئات الشابة واليافعة، ورغم تفاوت المنهجيات بين التقديرات، فإن إجماع المختصين ينصرف إلى أن الظاهرة خرجت من الدوائر المغلقة للاستعمال في الفضاء العام والأسري والمدرسي.
سوق المؤثرات العقلية يتمدد
على الأرض تكشف بيانات رسمية عن موجات ضبط كبيرة تشير إلى اتساع سوق المؤثرات العقلية ففي الربع الثاني من عام 2025 أعلنت المديرية العامة للأمن الوطني حجز ما يفوق طنين ونصف الطن من القنب الهندي وأكثر من خمسة ملايين وخمسمئة ألف قرص من المؤثرات العقلية، إلى جانب كميات من الكوكايين والهيروين، وهي حصيلة وُصفت بغير المسبوقة قياسا بالفترات السابقة، وتعكس هذه الأرقام تحولا في أنماط التعاطي نحو الأقراص المهلوسة الرخيصة نسبيا سهلة التداول، وهي ظاهرة رصدتها أيضا تقارير أممية على مستوى إفريقيا والشمال الإفريقي.
تُسجل بيانات الجيش والأجهزة الأمنية عمليات اعتراض متواصلة لشحنات الراتنج القادم عبر الحدود الغربية، ما يرسخ حقيقة جغرافية باعتبار الجزائر واقعة على مسارات عبور وتوزيع إقليمية تحاول السلطات كسرها عبر تكثيف الرقابة على الشريط الحدودي وتفكيك الشبكات، وهذه العمليات الأسبوعية تقطع الطريق على جزء من الإمدادات لكنها لا تلغي الضغوط على المدن الكبرى التي باتت ساحات توزيع واستهلاك.
على الضفة الصحية، تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من أربعة وثلاثين ألف شخص تلقوا رعاية علاجية من اضطرابات التعاطي في عام 2023، عبر شبكة وطنية تضم فروعا استشفائية متخصصة ونحو ثمانية وأربعين مركزا علاجيا ومرافق قريبة من البيئة المدرسية، وكلها خدمات مجانية وتعتمد على التطوع والسرية، ورغم أهمية هذه البنية، تبدو الفجوة كبيرة مقارنة بحجم الطلب، ما يستدعي توسيع الوصول للعلاج المجتمعي وبرامج إعادة التأهيل والاندماج.
تبنّت الجزائر في يوليو 2025 تعديلات قانونية على الإطار المنظم للوقاية من المخدرات ومكافحة الاتجار بها، هدفت إلى تشديد العقوبات على الشبكات المنظمة وتوسيع أدوات الوقاية والعلاج وإدراج آليات للتتبع والاختبارات في المدارس وأماكن العمل والسجون، مع تشديد عقوبات العود، وربطت وزارة العدل الإصلاحات باستراتيجية وطنية متعددة الأبعاد تشمل الردع الجنائي والتأهيل الصحي والاجتماعي.
منظور أممي وحقوقي
تدعو الأمم المتحدة، عبر الموقف المشترك لوكالاتها بشأن سياسات المخدرات، إلى نهج يضع الإنسان والصحة العامة في المركز ويُوازن بين إنفاذ القانون والوقاية والعلاج والحد من الأضرار، مع احترام الكرامة وحقوق الإنسان وتوسيع بدائل العقوبة في جرائم الاستعمال والحيازة للاستخدام الشخصي. منظمات حقوقية دولية وخبراء أمميون يجددون التأكيد على أن السياسات العقابية وحدها لا تكفي، وأن الاستثمار في الوقاية والعلاج وخدمات ما بعد الرعاية هو ما يقطع دورة الإدمان ويحد من آثارها الاجتماعية والأمنية.
لا تنبت الأزمة في فراغ، فالتفاوت الاجتماعي والبطالة بين الشباب وضغوط السكن وتبدلات ما بعد الجائحة أسهمت في هشاشة الصحة النفسية، بينما أتاحت الشبكات الرقمية أساليب ترويج وتوصيل غير تقليدية، وفي هوامش المدن والبلدات الحدودية تتقاطع الإغراءات الاقتصادية للاتجار الصغير مع ضعف شبكات الدعم الأسري والمدرسي، لتظهر أنماط تعاطٍ مبكرة لدى تلاميذ وطلبة، وفق ما ترصده العيادات المجتمعية والكوادر الصحية، وتظهر تقارير منظمة الصحة العالمية في الجزائر أن الفئة العمرية الأكثر حضورا في خدمات العلاج هي ما بين السادسة عشرة والخامسة والثلاثين، وهو ما يعزز الحاجة لوقاية مدرسية وجامعية وبرامج مهارات حياتية ومرافقة أسرية.
تنعكس موجات التعاطي على المجالين الأسري والمجتمعي بارتفاع الشجارات العنيفة وجرائم السرقات المرتبطة بالحصول على الجرعات، وفق روايات مختصين وتقارير شرطية، وهذه الحلقة تسبب خسائر اقتصادية مباشرة في الصحة والعدالة والأمن، وغير مباشرة عبر ضياع سنوات تعليم وعمل، ما يضع ملف الإدمان في صلب أولويات التنمية البشرية، وليس في هامش قضايا النظام العام.
تؤكد التجارب الدولية أن استراتيجيات ناجعة تقوم على ثلاثية الوقاية المبكرة والعلاج المتاح والعدالة الذكية، فالوقاية المبكرة تعني برامج طويلة الأمد في المدارس والتكوين المهني والجامعات تربط المعرفة العلمية بالمهارات الحياتية وتدريب الأقران، والعلاج المتاح يتطلب توسيع مراكز الرعاية الخارجية وزيادة الأسرة في المصحات المتخصصة وتبني بروتوكولات وطنية مبنية على الأدلة ومراعية للنوع الاجتماعي والفئة العمرية، أما العدالة الذكية فتركز على تحويل المستخدمين نحو العلاج والمتابعة بدلا من السجن، مع الحزم في مواجهة الشبكات المنظمة، وهو اتجاه تقر به أدبيات الأمم المتحدة ويُعدّ جزءا من التزامات تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
صوت المؤسسات الوطنية
المجالس والمؤسسات الوطنية المعنية بحقوق الإنسان في الجزائر دعت إلى تعبئة منسقة تأخذ بعين الاعتبار كرامة المرضى وحقوقهم، وتدعم الوقاية والتأهيل إلى جانب إنفاذ القانون، مع إشراك منظمات المجتمع المدني في حملات التوعية وفتح قنوات آمنة للعلاج، وفي السياق نفسه، تشير السلطات إلى خطط تعاون مع قطاعات التعليم والشباب والطفولة لتعزيز الدرع الوقائي داخل المدرسة والحي ومراكز الشباب.
تتزامن الأزمة الجزائرية مع تحولات إقليمية وعالمية؛ فشمال إفريقيا يُعد أحد المسارات الرئيسة لراتنج القنب، بينما تسجل المنطقة زيادات مقلقة في تداول المؤثرات العقلية المصنعة، وتحذر تقارير المخدرات العالمية من سوق سريع التبدل تقوده شبكات مرنة وأساليب توزيع رقمية، ما يزيد الضغوط على الأجهزة الوطنية ويستلزم تعاونا عابرا للحدود في الاستخبارات وتتبع الأموال.
ويشير خبراء الصحة العامة إلى حزمة خطوات عملية يمكن أن تُحدث فارقا ملموسا، أولها مضاعفة الطاقة الاستيعابية لمراكز العلاج المجتمعية وربطها بحواضن لإعادة الإدماج المهني، وثانيها إطلاق حزمة تدريب وطنية للمرشدين الاجتماعيين والنفسيين في المدارس والجامعات ومراكز التدريب، مع بروتوكولات واضحة للإحالة. ثالثها توسيع برامج الوقاية الأسرية والتثقيف الإعلامي الرقمي لتجفيف قنوات الترويج على المنصات، ورابعها تحديث قاعدة البيانات الوطنية عبر مسوح علمية دورية تكشف الحجم الحقيقي للاستخدام وأنماطه، بما يسمح باستهداف الموارد بكفاءة.
يذكر أن الإطار القانوني الوطني في الجزائر يستند إلى القانون 04-18 الصادر في ديسمبر 2004 والمعدل بعدة نصوص آخرها القانون 25-03 الصادر في الأول من يوليو 2025، الذي شدد العقوبات على شبكات الاتجار ووسع أدوات الوقاية والعلاج وآليات المتابعة، وربط الإصلاح بإستراتيجية وطنية متعدّدة الأبعاد، وعلى الصعيد الصحي تشير بيانات منظمة الصحة العالمية المنشورة في 12 ديسمبر 2024 إلى وجود ثمانية وأربعين مركزا علاجيا وخمسة مراكز استشفائية متخصصة وأكثر من أربعة وثلاثين ألف مستفيد من خدمات العلاج في عام 2023.