مساءلة متوقفة.. كيف يحرم نقص التمويل الأمم المتحدة من التحقيق في عنف المستوطنين؟
مساءلة متوقفة.. كيف يحرم نقص التمويل الأمم المتحدة من التحقيق في عنف المستوطنين؟
أظهر مستند أممي نشر مؤخراً أن لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة مكلفة بالبحث في جرائم عنف المستوطنين الإسرائيليين والتحقيق في نقل أسلحة ذات صلة بصراع غزة باتت غير قادرة على استكمال عملها بسبب قيود مالية حادة، وهذه الحالة ليست حادثاً منعزلاً، بل مؤشر على أزمة تمويلية واسعة تصيب قدرة منظومة حقوق الإنسان الدولية على توثيق الانتهاكات ومعالجة الإفلات من العقاب.
حجم النقص وتأثيره العملي
بحسب المراسلات الرسمية، أبلغت رئيسة لجنة التحقيق الأممية أنفي بيلاي مجلس حقوق الإنسان بأنها لا تستطيع توظيف محققين أو موظفين أساسيين، وأن اللجنة بدأت تبلغ رعاة القرارات بعدم قدرتها على تقديم التقارير المطلوبة في مارس 2026، ويرتبط نقص التمويل بأزمة سيولة عامة داخل منظومة الأمم المتحدة ناجمة عن تراكم الديون المتأخرة لعضوية بعض الدول، ومن بينها التزامات كبيرة على الولايات المتحدة تقدر بنحو 1.5 مليار دولار، ما عوّق تخصيص موارد مستقرة لعمليات التحقيق والمتابعة، كما تعتزم المنظمة خفض ميزانيتها بنحو 20 بالمئة للتكيف مع الأزمة المالية وفق "رويترز".
تأجيل التحقيقات السابقة إنذار مبكر
التجربة الأخيرة ليست الأولى، فقد أوقف نقص التمويل تحقيقاً أممياً آخر بشأن انتهاكات محتملة في الكونغو، بعد أن استُنزفت مخصصات مكتب المفوض السامي وتم تعليق عمل لجنة تحقيق مرخصة بسبب نفاد الموارد، ومثل هذه التوقفات تظهر كيف أن تعطيل تمويل آليات التحقق يقطع مسار جمع الأدلة ويؤخر إجراءات حفظها وحماية الشهود فتحول دون إحالتها لاحقاً إلى جهات قضائية مثل المحكمة الجنائية الدولية.
اللجان الأممية وهيئات التحقيق تتيح شهادات وأدلة يمكن أن تُستخدم في مراجع قضائية لاحقة، إذ تقدم تقاريرها إطاراً رسمياً للتوثيق وتناصر فتح تحقيقات قضائية وطنية أو دولية. عندما يتعطل عمل هذه الآليات لغياب التمويل، يفقد المجتمع الدولي أداة فنية محايدة لتجميع الأدلة وتقييم مدى ارتقاء الانتهاكات إلى جرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانية، وهذا الفراغ لا يعوق فقط العدالة القانونية بل يغذي الفرص السياسية لمنع مساءلة مسؤولين أو جماعات مسلحة ويزيد من إحساس الإفلات من العقاب لدى مرتكبي الانتهاكات.
التأثير في الضحايا والشهود ووثائق الأدلة
التحقيقات الميدانية تتطلب موارد ثابتة لحماية الشهود وتقديم رعاية نفسية وقانونية للضحايا، فضلاً عن قدرات فنية لتأمين وإدارة الأدلة الرقمية والمادية. وضمور فرق التحقيق أو عملها بنصف طاقتها مثلاً يعني توقف حماية شهود مهمين، وتأخير توثيق مشاهد الجريمة، وانهيار سلاسل الحفظ التي تضمن قبول الأدلة أمام محاكم دولية، وهذا ما حذّر منه مسؤولون أمميون عندما وصفوا قدرة التحقيقات بأنها تعمل الآن بنحو خمسين بالمئة من مستويات التوظيف المطلوبة، ما يجعل تنفيذ مهامها الرئيسية عرضة للإخفاق.
ردود فعل المنظمات الحقوقية والأممية
دعت منظمات حقوقية دولية، أبرزها منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، إلى بذل جهود فورية لتمويل آليات التحقيق ووضع ضمانات لحمايتها من ضغوط سياسية أو مالية، وشددت منظمة هيومن رايتس ووتش وغيرها على أن تقليص الموارد يمثّل ضربة لأدوات المساءلة الدولية ويجب على الدول المانحة تسديد التزاماتها وإطلاق تمويل مخصص للتحقيقات التي توثق جرائم خطِرة، كما ربطت تقارير منظمات أخرى بين تقليص المساعدات وتهديد استمرارية برامج حماية الضحايا، ودعت إلى تدخلات سريعة لتلافي فقدان أدلة لا يمكن تعويضها لاحقاً.
أبعاد سياسية ودبلوماسية
أزمة التمويل ليست مجرد مسألة إدارة داخلية فقد أدى تراكم الديون المستحقة للمنظومة الأممية، واستخدام بعض الدول لآلية التمويل أداة سياسية، إلى إضعاف مصداقية برامج حقوق الإنسان، كما أن التأخر في السداد يؤثر في قدرة الأمم المتحدة على الشراء والتعاقد مع خبراء وفرق تحقق، كما يضع مجلس حقوق الإنسان أمام خيارات صعبة بين تعميق المهمات بموارد متاحة أو تعليق قضايا قد تكون محورية لضحايا كثيرين، ففي سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مثلاً، تعطيل التحقيقات يزاوج بين اعتبارات سياسية وحاجة ملحة لحماية أدلة قد تقود لاحقاً إلى مساءلة جنائية.
مخاطر طويلة الأجل
عندما تتكرر حالات التوقف عن التحقيق لأسباب مالية، تتآكل ثقة الضحايا والمجتمع المدني في قدرة النظام الدولي على تحقيق العدالة، وقد تترجم هذه الثقة المفقودة إلى مزيد من التصعيد في الميدان، وإلى تباطؤ في تقديم الشكاوى، أو إلى لجوء الضحايا إلى آليات وطنية ضعيفة أو إلى الانتقام المحلي، كما أن تراكم حالات الإفلات من العقاب يضعف رادع القانون الدولي ويشجع على تكرار الانتهاكات.
توصيات عملية قابلة للتطبيق
تؤكد المنظمات الأممية والإنسانية أنه على الدول الأعضاء الوفاء فوراً بالتزاماتها المالية وتسديد الرسوم المتأخرة لصيانة استمرارية مهام حقوق الإنسان، وإنشاء صندوق طوارئ مستقل من قبل مانحين متعددين مخصص لدعم عمليات التحقيق الأممية الحساسة بحيث تكون محفوظة من التجاذبات السياسية، بجانب إقرار آليات شفافة لرصد صرف هذه الأموال وتحديد أولويات تمويل التحقيقات التي توثّق جرائم خطرة وتعرض أدلة قابلة للاستخدام القضائي، ودعم متزامن لبرامج حماية الشهود وحفظ الأدلة الرقمية والفيزيائية، والتنسيق مع هيئات مثل المحكمة الجنائية الدولية لتسريع نقل الأدلة.
يذكر أن مجلس حقوق الإنسان أنشأ لجنة تحقيق دولية مستقلة في مايو 2021 للبحث في الانتهاكات في الأرض الفلسطينية المحتلة، ومنحها لاحقاً صلاحية توسيع البحث إلى قضايا إضافية مثل نقل الأسلحة وأعمال عنف المستوطنين بطلب من أعضائها، في الأشهر الأخيرة كشفت وثائق أممية أن اللجنة غير قادرة على توظيف باحثين بسبب عجز التمويل، وأن ذلك قد يؤثر في تقديم التقارير المفوض بها في مارس 2026، وتعد الأزمة جزءاً من مشهد تمويل أوسع يضرب مكتب حقوق الإنسان، حيث سُجل نقص في التمويل الطوعي والرسوم الإلزامية، وظهرت مطالبات دولية، وسُجلت أرقام متراكمة للمديونيات، ما دفع المنظمة إلى دراسة خفض ميزانيتها وخيارات لخفض الإنفاق، وسبق أن أدت أزمة تمويل مشابهة إلى تعليق تحقيق مرخّص في الكونغو خلال 2025، ما جعل مسألة تمويل العدالة أمراً ذا أولوية عاجلة لصيانة فعالية آليات المساءلة الدولية.