بعد تعهدات ترامب.. جدل عسكرة المدن الأمريكية يتجدد في شيكاغو

بعد تعهدات ترامب.. جدل عسكرة المدن الأمريكية يتجدد في شيكاغو
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

تجدّد الجدل في الولايات المتحدة بعد أن صعّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطابه تجاه مدينة شيكاغو، متعهّدًا بإنهاء ما وصفه بـ"مشكلة الجريمة" في المدينة التي اعتبرها "أخطر مدينة في العالم"، ومشيرًا إلى إمكانية نشر قوات من الحرس الوطني في شوارعها. 

التصريحات جاءت بحسب ما أوردته "فرانس برس" الأربعاء، عقب سلسلة من حوادث إطلاق النار في عطلة نهاية الأسبوع أسفرت عن مقتل ثمانية أشخاص وإصابة عشرات آخرين، الأمر الذي وظّفه ترامب لتأكيد رؤيته بأن المدينة تحتاج إلى تدخل فيدرالي عاجل يعيد إليها الأمن، غير أن هذه الوعود قوبلت برفض قاطع من سلطات إلينوي وبلدية شيكاغو، واعتبرها مسؤولون محليون محاولة سياسية لا علاقة لها بمكافحة الجريمة بقدر ما تستهدف فرض سلطة فدرالية على مدن تُدار ديمقراطيًا.

ورغم حدة خطاب ترامب، فإن الإحصاءات الحديثة تعطي صورة مختلفة عن الواقع. فبحسب بيانات رسمية وتقارير متخصصة، شهدت شيكاغو انخفاضًا كبيرًا في معدلات الجريمة خلال العامين الماضيين، إذ تراجعت جرائم القتل بنسبة تجاوزت الثلاثين في المئة مقارنة بعام 2023، وانخفضت حوادث إطلاق النار بنحو أربعين في المئة، كما سجلت الجرائم العنيفة بشكل عام تراجعًا بنحو عشرين في المئة.

وهذه الأرقام تتناقض مع خطاب التصعيد الذي صوّر المدينة كأنها غارقة في العنف المستمر. وبحسب مقارنة أجرتها منظمات بحثية مستقلة، فإن شيكاغو لم تعد ضمن المدن الأمريكية الأكثر عنفًا، إذ تتقدمها مدن أخرى مثل سانت لويس أو بالتيمور في معدلات القتل لكل مئة ألف نسمة، وهو ما يضع تصريحات الرئيس ترامب في إطار المبالغة السياسية أكثر منها توصيفًا دقيقًا للواقع الأمني.

ردود الفعل المحلية

حاكم ولاية إلينوي جي بي بريتزكر شدّد على أن "شيكاغو لا تريد قوات في شوارعها"، محذرًا من أن نشر الحرس الوطني دون مبرر قانوني سيعدّ انتهاكًا للدستور ولصلاحيات الولايات، ورئيس بلدية المدينة براندون جونسون بدوره وصف الخطوة المحتملة بأنها "احتلال عسكري" يهدد الديمقراطية المحلية، معلنًا إجراءات للحد من صلاحيات أي قوات فيدرالية قد يتم الدفع بها إلى الميدان، وقد انضم إلى هذا الموقف قادة سياسيون ديمقراطيون آخرون، رأوا في تصريحات ترامب محاولة لإثارة مواجهة سياسية مع الحكام المحليين الديمقراطيين وتوظيف الملف الأمني لتعزيز أجندة انتخابية قائمة على خطاب القوة وإبراز سلطة الرئيس في مواجهة خصومه.

القاعدة الدستورية في النظام الفيدرالي الأمريكي تمنح الولايات صلاحيات واسعة في إدارة شؤونها الأمنية، ولا يحق للرئيس نشر قوات فيدرالية إلا في ظروف استثنائية تتعلق بإعلان الطوارئ أو بوجود تهديد واضح للأمن القومي، وتجارب سابقة، مثل قرار نشر الحرس الوطني في لوس أنجلوس أو واشنطن، أثارت نزاعات قضائية، حيث قضت محاكم فدرالية بعدم قانونية بعض هذه الخطوات، في وقت ينتظر أن تحسم المحكمة العليا، ذات الأغلبية المحافظة، في مسألة حدود هذه السلطة، وهذا الصراع يسلط الضوء على جدلية قديمة بين سلطة المركز وحقوق الولايات، ويطرح أسئلة حول التوازن بين متطلبات الأمن ومبادئ الحكم الذاتي.

المجتمع المدني لم يقف متفرجًا، منظمات محلية للدفاع عن الحقوق المدنية والمهاجرين، مثل التحالف من أجل حقوق المهاجرين واللاجئين في إلينوي، نددت بما وصفته محاولات "ترهيب سياسي" تستهدف شيكاغو بوصفها مدينة ملاذ للمهاجرين، وقد خرجت تظاهرات في قلب المدينة للتعبير عن رفض عسكرة الفضاء العام والمطالبة بالتركيز على حلول اجتماعية واقتصادية لمعالجة جذور العنف، منظمات حقوقية دولية تابعة للأمم المتحدة كانت قد دعت في تقارير سابقة إلى مراعاة مبادئ حقوق الإنسان في سياسات الأمن الداخلي، معتبرة أن الإفراط في الاعتماد على القوات المسلحة لمكافحة الجريمة قد يؤدي إلى انتهاكات واسعة للحريات المدنية، كما رأت هيئات حقوقية أن الحلول الأكثر فاعلية تتمثل في تعزيز برامج الصحة النفسية، وتوسيع فرص العمل للشباب، وتحسين العلاقة بين الشرطة والمجتمعات المحلية.

العنف في شيكاغو

ارتبطت المدينة منذ عشرينيات القرن الماضي بسمعة "مدينة العصابات"، مع صعود أسماء مثل آل كابوني الذي سيطر على شبكات الجريمة المنظمة تحت أعين حكومات محلية متساهلة. وفي العقود اللاحقة، تصاعدت معدلات الجريمة بفعل عوامل اجتماعية واقتصادية معقدة، من التفاوت في الدخل، إلى التهميش الحضري، وصولًا إلى انتشار العصابات المسلحة، لكن السنوات الأخيرة شهدت جهودًا متعددة لإعادة بناء النسيج الاجتماعي عبر برامج الإصلاح، رغم التحديات المستمرة. 

ومن المفارقات أن عام 2021 سجّل ذروة تاريخية في عدد جرائم القتل، قبل أن تبدأ معدلاتها بالانخفاض الواضح منذ 2022، وهو ما يعكس أن المدينة ليست على شفا انهيار أمني كما يصوّرها البعض، بل في مسار إصلاحي بطيء لكنه ملموس.

المعايير الحقوقية 

دوليًا، تثير هذه القضية أسئلة حول التزامات الولايات المتحدة بالمعايير الدولية في مجال حقوق الإنسان، فالقانون الدولي يضع قيودًا واضحة على عسكرة المدن، ويشدد على حماية المدنيين من الممارسات الأمنية المفرطة، وحذرت منظمات أممية في تقارير متكررة من أن عسكرة المشهد الحضري قد تؤدي إلى "تطبيع" وجود القوات المسلحة في الحياة المدنية، وهو ما يقوض مبادئ الديمقراطية والعدالة، وفي هذا السياق، يرى خبراء أن أي نشر للقوات في شيكاغو قد يكون له انعكاسات على صورة الولايات المتحدة عالميًا، خاصة في ظل متابعات دقيقة من هيئات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية لمدى التزام واشنطن بمعاييرها الحقوقية.

من الناحية السياسية، يُنظر إلى تصريحات ترامب باعتبارها جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة إنتاج خطاب "القانون والنظام" الذي ميّز حملاته السابقة، لكن الواقع الأمني والاجتماعي يعكس معادلة أكثر تعقيدًا، حيث إن الجريمة في المدن الأمريكية لا ترتبط فقط بانتشار المهاجرين كما يروّج الخطاب الرسمي، وإنما بجذور أعمق تشمل الفقر، والبطالة، والفجوات التعليمية، والتحديات الاقتصادية، وتكشف تجربة السنوات الأخيرة في شيكاغو أن خفض معدلات العنف كان نتيجة مزيج من سياسات محلية تشمل التدخل الاجتماعي والصحي، وتوسيع فرص الشباب، وزيادة معدل حلّ القضايا الجنائية إلى أكثر من 77 في المئة، وهو أعلى معدل خلال عقد كامل.

في المحصلة، يظهر أن الأزمة في شيكاغو ليست مجرد نزاع حول الأرقام أو السياسات الأمنية، بل هي مواجهة مفتوحة بين رؤيتين: رؤية رئاسية تسعى لفرض السيطرة عبر استعراض القوة، ورؤية محلية تتشبث بالسيادة المجتمعية وتؤمن بجدوى الحلول الاجتماعية والاقتصادية، وهذا التناقض يعكس بدوره معركة أكبر داخل الولايات المتحدة حول تعريف الأمن ذاته: هل هو غياب الجريمة فقط، أم بناء بيئة عادلة تعالج جذور العنف؟ 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية