بين أرباح المعالجة وإرث التسمم.. كيف تقوّض أنشطة التعدين صحة الأطفال في زامبيا؟

بين أرباح المعالجة وإرث التسمم.. كيف تقوّض أنشطة التعدين صحة الأطفال في زامبيا؟
أنشطة التعدين في زامبيا - أرشيف

تتركز الأزمة الإنسانية الصحية والبيئية بمدينة كابوي في زامبيا حيث تراكمت على مدى عقود نفايات منجم قديم للرصاص والزنك، يُعرف محلياً باسم الجبل الأسود، ومنذ منتصف 2023 توسعت أنشطة إزالة ونقل ومعالجة تلك النفايات، ما أعاد إطلاق غبار ملوّث بالرصاص في أحياءٍ سكنية، وفتح سوقاً تجارية لهذه المواد الخطرة، في حين تستفيد شركات محلية وأجنبية من بيع مخلفات الزنك دون تحييد المخاطر الصحية للسكان.

وفق تقرير نشرته هيومن رايتس ووتش الخميس تم توثّيق أن هذه الأنشطة جرى تسهيلها من قبل تراخيص حكومية في وقت يحتاج فيه السكان إلى برنامج شامل لتنظيف المنطقة وحماية الأطفال. 

وتجمع الأسباب بين إرث بيئي مهمل ودوافع اقتصادية ولوائح ضعيفة في زامبيا فقد تم إغلاق المنجم منذ التسعينيات ولم تُنظف نفاياته، ما خلق مخزوناً ضخماً من المواد القابلة لإعادة المعالجة تجارياً، وارتفاع الطلب العالمي على الزنك والرصاص لصناعات الطاقة والتخزين جعل من مخلفات كابوي مصدراً مغرياً للأرباح، ما دفع شركات محلية وأجنبية إلى السعي لاستخراج المعادن من النفايات دون ضمانات بيئية كافية، وفي هذا الإطار نفذت الحكومة تصاريح ومعاملات سمحت بوجود مشغّلين جدد، في حين تثير صلات بعض المستفيدين المحليين إلى أحزاب سياسية مخاوف من تضارب مصالح ومقايضة الصحة العامة بالمنافع الاقتصادية.

التداعيات الصحية والاجتماعية

الرصاص معدن شديد السمية، وخاصة للأطفال، والتعرض المزمن له يؤدي إلى تلف دماغي وتنموي دائم، وانخفاض مستوى الذكاء، ومشكلات سلوكية وصحية طويلة الأمد، وقد رصدت دراسات علمية أن أكثر من خمسة وتسعين في المئة من الأطفال في بعض أحياء كابوي لديهم مستويات مرتفعة من الرصاص في الدم، ونسب كبيرة منهم بحاجة إلى علاج عاجل، وإعادة نقل النفايات وفتحها إلى الهواء يفاقم التعرض القائم ويهدر الجهود السابقة للتخفيف، وتمتد تأثيرات ذلك اجتماعياً واقتصادياً أيضاً من خلال العزوف عن المدارس، وانهيار سبل العيش الزراعية، وصدمات نفسية للأسر التي ترى أطفالها يفقدون فرص التعلم والصحة. 

واجهت الحكومة الزامبية انتقادات وطنية ودولية لتراخيها في تطبيق قوانين البيئة والمناجم، مع دعوات لتعليق التراخيص وإجراء تحقيقات مستقلة، وفي بعض الحالات أوقفت السلطات المحلية عمل شركات صينية لمعالجة المعادن بعد اتهامات بانتهاك اللوائح، لكن تحليلاً ميدانياً يشير إلى استمرار أعمال شركات أخرى ما يثير مخاوف من تطبيق انتقائي للقرارات، وطالب المجتمع المدني وجماعات مناصرة صحة الطفل بتنظيف شامل، وتعويض المتضررين، وبرامج طبية تغطي فحوصات ومعالجات طويلة الأمد.

وشددت هيومن رايتس ووتش والأطر الإقليمية على ضرورة مساءلة الشركات وتفعيل آليات المراقبة الحكومية وإشراك المجتمع المحلي في أي قرار بشأن نقل أو معالجة النفايات. 

المؤسسات الإقليمية والدولية

المنظمات الأممية والحقوقية ركّزت على مسؤولية الدولة في حماية الحق في بيئة صحية، وهو حق اعترفت الأمم المتحدة ومؤسساتها أنه ركيزة لحماية حقوق الإنسان والعناية بالأطفال، وتؤكد لجنة حقوق الطفل وقرارات الأمم المتحدة التزام الدول باتخاذ إجراءات وقائية لحماية الأطفال من تلوث خطير. 

 على الصعيد الإقليمي أصدرت مفوضية حقوق الإنسان الإفريقية نداءات عاجلة تطالب الحكومة في زامبيا باتخاذ خطوات سريعة لإجراء تقييم مستقل، تعليق الأنشطة الخطرة، وتنفيذ برامج طبية، وإنعاش للمتضررين، وهذه التوصيات تدعمها مبادئ المسؤولية المشتركة بين الدول والشركات في القانون الدولي لحقوق الإنسان والبيئة.

الشركات المتورطة بررت عملياتها بوعود التنمية المحلية وخلق فرص عمل وتقييمات بيئية على الورق، في حين أظهرت تقارير تحقيقية عدم كفاية إجراءات الحماية، وغياب الإفصاح عن مخاطر المنتجات التي تُباع على أنها مخلفات زنك، وقد أفادت شركة جوبيلي ميتالز بأنها تلتزم بمسؤوليات بيئية لكنها تعاملت مع وسطاء ومشغّلين محليين بحسب مستندات وتقارير حقوقية؛ فغياب الشفافية في العقود وتقييمات الأثر البيئي يزيد من مخاطر التنفيذ غير الآمن. 

ماذا يلزم لاحتواء الكارثة؟

أوصى مراقبون ومنظمات حقوقية بإيقاف فوري لنقل ومعالجة أي نفايات بها معدن الرصاص حتى إجراء تقييم مستقل كامل لمدى انتشار التلوث والمخاطر الصحية، وإعلان مناطق الحظر وتطبيق قواعد السلامة، وتنفيذ برنامج شامل للتشخيص والعلاج طويل الأمد لأطفال وكبار كابوي، وتمويل ثابت للرعاية الصحية والتأهيل، مع سجلات صحية متاحة للمتضررين بجانب تنفيذ تنظيف بيئي مخصص وفق معايير دولية، بتمويل متعدد الأطراف ومشاركة المجتمع المتأثر وخبراء مستقلين، وتفعيل مساءلة الشركات والمسؤولين إذا ثبُت انتهاك قوانين البيئة أو التورط في صفقات أدت إلى تفاقم المخاطر، وأيضاً تفعيل آليات تعويض مناسبة للمتضررين، إضافة إلى وضع نظام شفاف للمنح والتصاريح البيئية يضمن عدم تكرار التجاوزات ويفسح المجال لمراقبة مدنية فعالة.

قضية كابوي في زامبيا لا تختزل فقط فشلاً بيئياً وتعافياً غير مكتمل من إرث التعدين، بل تكشف نقطة التقاء بين احتياجات التنمية والحقوق الصحية والحوكمة الضعيفة، فإنقاذ الأطفال من آثار الرصاص يتطلب قراراً سياسياً واضحاً واجتماعياً حقيقياً بين الحكومة والمجتمع الدولي وقطاع الأعمال، مع التزام طويل الأمد بالتنظيف والعلاج والمساءلة. وإن لم تتخذ هذه الخطوات بسرعة وبمبادئ إنسانية واضحة، ستبقى كابوي مثالاً حيّاً على تكلفة الإهمال والربح المباشر على حساب حياة الأجيال بحسب بيانات البنك الدولي وتقارير "هيومن رايتس ووتش".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية