بين السجون والمنفي.. مأساة الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في ميانمار
بين السجون والمنفي.. مأساة الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في ميانمار
منذ الانقلاب العسكري في ميانمار في فبراير 2021، يعيش المجتمع الإعلامي في واحدة من أكثر البيئات قمعاً وعداءً لحرية الصحافة في العالم، ويواجه الصحفيون والنشطاء والمدافعون عن حقوق الإنسان حملة ممنهجة من الاعتقالات والتهديدات وأحكام السجن الطويلة، في وقت يسعى فيه المجلس العسكري إلى إحكام قبضته على المجال العام عبر تكميم ما تبقى من أصوات مستقلة، وفي هذا السياق، تصاعدت الدعوات الدولية إلى عزل لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس العسكري، باعتبارها مجرد أداة لتبرير الانتهاكات بدلاً من محاسبة المسؤولين عنها.
أسباب القمع
وفق تقرير نشره الاتحاد الدولي للصحفيين الجمعة يعود تصعيد القمع ضد وسائل الإعلام والنشطاء إلى رغبة الجيش في السيطرة الكاملة على الخطاب العام بعد الانقلاب، فقد اعتُبرت وسائل الإعلام المستقلة أحد أبرز مصادر كشف الفظائع والانتهاكات التي رافقت استيلاء العسكريين على السلطة، من عمليات قتل جماعي إلى تهجير قسري واعتقالات واسعة، لذلك لجأ المجلس العسكري إلى استخدام قوانين فضفاضة مثل تشريعات مكافحة الإرهاب وقانون العقوبات لتجريم العمل الصحفي والنقابي، ما سمح له بإسكات أي صوت معارض تحت غطاء قانوني.
التداعيات الإنسانية والحقوقية
بحسب شبكة صحفيي ميانمار، قُتل ما لا يقل عن سبعة صحفيين منذ 2021، فيما سجل المركز الدولي لقانون المنظمات غير الربحية اعتقال 223 صحفياً حتى أغسطس 2025، من بين هؤلاء، صدرت أحكام بالسجن تصل إلى 511 عاماً بحق 91 صحفياً، بينما لا يزال 49 خلف القضبان، وتشير الإحصاءات إلى أن 22 في المئة من المحكومين يواجهون أحكاماً قاسية تتراوح بين 10 و27 عاماً.
هذه الأرقام تكشف حجم الأزمة الإنسانية التي يواجهها الإعلام في ميانمار، فالممارسات التعسفية لا تقتصر على الصحفيين فقط، بل تمتد إلى النقابيين والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين يواجهون المضايقات المستمرة والملاحقات القانونية، ونتيجة لذلك، اضطر عدد متزايد من الصحفيين إلى الهروب خارج البلاد، فيما يتعرض من بقي لمخاطر الاعتقال والتعذيب.
ردود الفعل الدولية
الاتحاد الدولي للصحفيين وصف ما يجري بأنه اعتداء مباشر على حرية التعبير، مؤكداً أن لجنة حقوق الإنسان في ميانمار فقدت استقلاليتها تماماً، وأصبحت مجرد أداة لترديد رواية الجيش، وشاركت سبعة اتحادات نقابية عالمية أخرى في الدعوة لإزالة اللجنة من منتدى مؤسسات حقوق الإنسان الوطنية في جنوب شرق آسيا، معتبرة أن استمرار عضويتها يمثل خرقاً لمبادئ باريس التي تشترط الاستقلال والنزاهة لمثل هذه المؤسسات.
الأمم المتحدة بدورها عبرت عن قلقها العميق إزاء "الجرائم ضد الإنسانية" التي تُرتكب في ميانمار، فيما أشارت منظمة العمل الدولية إلى أن المجلس العسكري ينتهك بشكل ممنهج حقوق العمال، بما في ذلك حرية تكوين الجمعيات، وهو ما دفعها إلى اتخاذ إجراء نادر باستخدام المادة 33 من دستورها لمعاقبة النظام في يونيو 2025.
القانون الدولي ومبادئ باريس
القمع الممنهج لحرية الصحافة في ميانمار يتعارض بشكل صارخ مع المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تضمن الحق في حرية التعبير وتلقي المعلومات ونقلها، كما أن تجريم الصحافة عبر قوانين مكافحة الإرهاب يُعد خرقاً واضحاً للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
أما لجنة حقوق الإنسان في ميانمار فقد جُردت بالفعل من اعتماد التحالف العالمي لمؤسسات حقوق الإنسان الوطنية في ديسمبر 2024، واستُبعدت من منتدى آسيا والمحيط الهادئ في مايو 2025 بسبب عدم امتثالها لمبادئ باريس، ورغم ذلك ما زالت تحاول الاحتفاظ بعضويتها في منتدى جنوب شرق آسيا، وهو ما تعتبره النقابات والحقوقيون تقويضاً لمصداقية المنظومة الحقوقية الإقليمية.
تاريخ العلاقة بين الجيش وحرية الصحافة في ميانمار مليء بالتوتر، فمنذ عقود، فرضت السلطات العسكرية قيوداً صارمة على الإعلام، لكن فترة الانفتاح النسبي بين عامي 2010 و2020 شهدت توسعاً في حرية التعبير ونشوء وسائل إعلام مستقلة لعبت دوراً بارزاً في كشف انتهاكات حقوق الأقليات مثل الروهينغا، ومع الانقلاب في 2021 عادت البلاد سريعاً إلى دائرة الاستبداد، حيث أُغلقت عشرات المؤسسات الإعلامية، وأُجبر مئات الصحفيين على العمل في الخفاء أو الفرار.
انعكاسات على مستقبل الإعلام والمجتمع المدني
البيئة الإعلامية القمعية في ميانمار تعني أن المجتمع الدولي يعتمد بشكل متزايد على تقارير المنظمات في المنفى أو شبكات الصحافة المستقلة السرية للحصول على المعلومات، وهذا الوضع يضعف القدرة على محاسبة المسؤولين ويكرس الإفلات من العقاب.
كما أن إسكات الصحفيين يترك ملايين المواطنين دون منصة للتعبير عن معاناتهم، خصوصاً في المناطق المتضررة من النزاعات المسلحة والعمليات العسكرية.
القمع أيضاً ينعكس على المجتمع المدني الأوسع، حيث يُحرم النشطاء والمدافعون عن حقوق الإنسان من فضاء العمل، ما يهدد بانكماش المساحات الديمقراطية بشكل كامل ويزيد من صعوبة أي انتقال سياسي في المستقبل.
ميانمار اليوم تقف عند مفترق طرق، فالمجلس العسكري يستخدم كل أدواته لتقييد الحريات وتكميم الأصوات المستقلة، بينما تسعى مؤسساته الشكلية مثل لجنة حقوق الإنسان إلى إضفاء شرعية زائفة على هذا القمع، ورغم الإدانات الدولية، ما زال النظام يواصل ممارساته وسط إفلات شبه كامل من العقاب.
التحدي أمام المجتمع الدولي لا يكمن فقط في إصدار بيانات تنديد، بل في إيجاد آليات ضغط حقيقية تضمن حماية الصحفيين والنشطاء وإعادة فتح المجال العام، فغياب هذه الخطوات يعني أن ميانمار ماضية في مسار مظلم يهدد حرية الصحافة وحقوق الإنسان، ليس في البلاد وحدها بل في المنطقة بأسرها.