أبعاد التضليل.. كيف شجّعت التغطية الإعلامية المغلوطة نقاشات انسحاب بريطانيا من اتفاقية حقوق الإنسان؟

أبعاد التضليل.. كيف شجّعت التغطية الإعلامية المغلوطة نقاشات انسحاب بريطانيا من اتفاقية حقوق الإنسان؟
صحف بريطانية والتغطية الإعلامية

أظهر تقرير حديث لمعهد بونافيرو لحقوق الإنسان في جامعة أكسفورد البريطانية أن تغطية واسعة لحالات قضائية مرتبطة بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تناولت في كثير من الأحيان تفاصيل مضلِّلة أو غير مكتملة، ما أسهم في تشويه فهم الجمهور لدور هذه الاتفاقية في قضايا الهجرة والتهجير وأثار مطالبات متزايدة بالانسحاب أو التعديل. 

وفق تقرير نشرته شبكة الهجرة الإلكترونية، اليوم الاثنين، اعتمدت الدراسة منهجية محكمة وراجعت 379 مادة صحفية وتحليلية نُشرت بين يناير ويونيو 2025.

وخلصت إلى أن أكثر من ثلاثة أرباع هذه التغطية انصبّت على قضايا الهجرة، وغالباً على أحكام قضائية صادرة عن محاكم المستوى الابتدائي وُصفت بطريقة تُوحي بأنها تعوق السيطرة على الحدود، بينما كانت الصورة القانونية أوسع وأدق بكثير مما عكسته العناوين. 

منهجية الدراسة والنتائج

حدد التقرير ثلاثة أنماط متكررة من التغطيات المضللة تشمل: نشر أحكام ابتدائية لم تعد سارية لأن محاكم أعلى ألغتها، وتقديم ما طرحه محامو المستأنفين كأنه سبب القضية الأساسي رغم رفضه من القضاة، واستبعاد السياق القانوني والبيانات الشاملة عن نسبة الطعون الناجحة وأعداد المرحّلين، وبيّنت الدراسة أيضاً أن غياب إحصاءات رسمية منظّمة من وزارة الداخلية يسهّل تداول تفسيرات إعلامية مبسّطة وغير دقيقة.

استشهدت الدراسة بعدة أمثلة باتت رمزية في النقاش العام، من بينها قضية أُلصِقت بها رواية أنّ قراراً قضائياً أُتخذ "لأن الطفل لا يحب قطع الدجاج الأجنبية"، بينما الواقع القضائي كان أكثر تعقيداً، والحكم الابتدائي خضع لاستئناف أو تفسير قانوني لم تُشر إليه تغطيات كثيرة، مثل هذه الأمثلة تُستخدم سياسياً وإعلامياً لتبسيط سردية مفادها أن حقوق الإنسان تُستخدم لتمنع ترحيل مجرمين، رغم أن الأدلة الإحصائية تُظهر أن الطعون الناجحة لأسباب حقوقية تشكّل نسبة ضئيلة من مجموع حالات الإبعاد المحققة. 

أرقام وإحصاءات ذات وزن

تقدّم الدراسة تحليلها بالإفادة بالبيانات المتاحة وذلك في أحدث سنة متوافرة أظهرت أرقام وزارة الداخلية في بريطانيا أن نسبة الطعون الناجحة على أساس حقوقي من بين فئة معينة من المحكومين (المتخصّصون بملف المرحلون الجنائيون) كانت نحو 0.73%، بينما الشكل الأشمل للطعون الناجحة المتعلقة بحقوق الإنسان يشكّل نسبة صغيرة نسبياً من مجموع عمليات الإبعاد.

وما يزيد المشكلة تعقيداً هو عدم نشر بيانات منهجية ومفصّلة من الجهات الحكومية عن نتائج الطعون على مختلف المستويات القضائية، وهذه الفجوة المعلوماتية تجعل من الصعب على الجمهور وصانعي القرار تقييم مدى تأثير التطبيق القضائي لقواعد حقوق الإنسان على سياسات الحدود. 

وتتراكم أسباب التضليل بين دوافع تجارية لدى وسائل إعلامية تبحث عن عناوين جذابة وسرعة النشر، وبين رغبة سياسية في تبسيط مشكلة معقدة لغايات ضغط تشريعي أو سياسي، كما أن شبكات التواصل الاجتماعي تضخم عناصر درامية من دون وضعها في سياقها القانوني، فضلاً عن ذلك، يذكر التقرير أن غياب الشفافية الرسمية في نشر الإحصاءات يوفّر فراغاً لسرد بدائل غير دقيقة، وتؤكد دراسات علمية وسياساتية عن التضليل أن المحتوى المتكرر والمثير للعاطفة يرسخ في الوعي العام أسرع من التصحيحات المعقدة، ما يفاقم من تأثير السرد المضلِّل. 

تداعيات في القضاء والمجتمع

أشار معهد بونافيرو إلى خطرين مباشرين: الأول تآكل ثقة الجمهور في القضاء والقانون عندما يوُصَف تطبيق القواعد بالشكل الخاطئ، والثاني تعرض القضاة لضغوط شخصية وأمنية، فقد توثّقت تحذيرات من رئيسة القضاء في إنجلترا وويلز بشأن استلام بعض القضاة تهديدات والاصطحاب إلى أبواب منازلهم نتيجة تغطيات مضلِّلة وانتقادات سياسية حادة، وتشكّل هذه التطورات تهديداً لاستقلالية المحاكم ولبنية النقاش الديمقراطي حول توازن الحقوق والحماية العامة. 

رحّبت منظمات حقوقية مثل "أمنستي" بتسليط الضوء على أخطار تحريف أحكام المادة 8 وغيرها، وطالبت بإطار نقاش قائم على الحقائق وبتصحيح مواقف رسمية تُحرّض على التضليل، وفي المقابل، دافع بعض أصوات الإعلام عن حرية التحرير لكنهّ تنبهت قطاعات مهنية إلى الحاجة لمعايير أكثر صرامة للتحقق من الوقائع قبل نشر ادعاءات قانونية، ويقترح تقرير بونافيرو إجراءات عملية نشر وزارة الداخلية لبيانات مفصّلة ومنتظمة عن نتائج الطعون وتشجيع وسائل الإعلام على نشر توضيحات وتصحيحات عندما يُكشف عن أخطاء، برامج تدريبية للقضاة ووسائل الإعلام حول شرح الأحكام وأسبابها، وإطلاق حملات توعوية عامة تبين دور الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحدود الواقعية لتدخلها. 

عناوين إخبارية متسرعة

يؤكد التقرير أن الحديث عن إصلاحات دستورية أو انسحاب من الاتفاقية لا يمكن أن يستند إلى أمثلة معزولة أو عناوين إخبارية متسرعة، وأن بناء نقاش عام مستنير يتطلب شفافية رسمية، وتحريراً إعلامياً ملتزماً بالتحقق، وحماية فعّالة للقضاة، فضلاً عن إتاحة سبل تعليم القانون العام للمواطنين، وبدون ذلك ستبقى الساحة مفتوحة لاستغلال الأخطاء الإعلامية سياسياً، ما يهدد صلابة قواعد حكم القانون والتوازن بين حماية المجتمع وحقوق الأفراد.

وترى الأمم المتحدة أن التضليل الإعلامي لم يعد مجرد تحدٍ اتصالي، بل يمثل تهديدًا مباشرًا للسلم المجتمعي والأمن الدولي وحقوق الإنسان. فبحسب تقارير الأمم المتحدة، يؤدي انتشار الأخبار المضللة عبر المنصات الرقمية ووسائل الإعلام إلى تقويض الثقة في المؤسسات الديمقراطية، وتأجيج خطاب الكراهية، وتعطيل الجهود العالمية لمواجهة أزمات كبرى مثل جائحة كوفيد-19 وتغير المناخ والنزاعات المسلحة.

وتؤكد المنظمة أن مكافحة التضليل تتطلب مقاربة شاملة ترتكز على تعزيز الشفافية والمساءلة لدى شركات التكنولوجيا، وبناء وعي إعلامي لدى الجمهور، وحماية الصحفيين والمصادر المستقلة للمعلومات، كما شددت على أن أي سياسات لمواجهة التضليل يجب أن تتوافق مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، بما في ذلك حرية الرأي والتعبير، حتى لا تتحول محاربة التضليل إلى ذريعة لتقييد الحريات.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية