حرية التعبير في مهب الريح.. أمريكيون يفقدون وظائفهم بسبب انتقاد تشارلي كيرك بعد اغتياله
حرية التعبير في مهب الريح.. أمريكيون يفقدون وظائفهم بسبب انتقاد تشارلي كيرك بعد اغتياله
في الولايات المتحدة التي طالما قدمت نفسها بوصفها حصنًا لحرية التعبير وموطنًا للديمقراطية، يواجه عشرات المواطنين موجة من العقوبات المهنية والاجتماعية القاسية بسبب انتقادهم شخصية مثيرة للجدل، المؤثر تشارلي كيرك الذي اغتيل مؤخرًا في حرم جامعي بولاية يوتاه.
الحدث الذي هزّ الساحة السياسية والإعلامية الأمريكية، بحسب وكالة فرانس برس، تجاوز حدّ الصدمة الأمنية والسياسية، ليتحوّل إلى أزمة حقوقية وإنسانية تتعلق بمساحة حرية الرأي، في ظل استقطاب غير مسبوق يغذي خطاب الكراهية والانتقام داخل الولايات المتحدة.
كيرك الذي قضى عن 31 عامًا، اشتهر بمواقفه المناهضة للإجهاض والهجرة، والمؤيدة لحق حيازة السلاح، وبقدر ما جمع حوله من المؤيدين حصد عداوة وانتقادات واسعة. بعد مقتله قدّم أنصاره صورة عنه بوصفه "شهيدًا للقيم المحافظة"، وهو ما رفع منسوب الحساسية تجاه أي انتقاد له.
في هذا المناخ، تحوّلت تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، بعضها لا يتجاوز سطرًا واحدًا، إلى أسباب مباشرة لفقدان الوظائف وتعرض أصحابها لحملات استهداف ممنهجة.
من أبرز الحالات، ما تعرضت له لورا سوش-لايتسي، موظفة في جامعة حكومية بولاية تينيسي. بعد أن كتبت على صفحتها في فيسبوك تعليقًا مقتضبًا: "الكراهية تولّد الكراهية، لا تعاطف على الإطلاق"، انهالت عليها موجة من الانتقادات قادتها السيناتور الجمهورية مارشا بلاكبرن التي طالبت علنًا بفصلها، الجامعة لم تتأخر في الاستجابة، فأعلنت إنهاء عقدها، ما جعل قضيتها رمزًا لتضييق متسارع على حرية التعبير.
من الرقابة إلى العقاب
لا يقف الأمر عند سوش-لايتسي، فقد أُبلغ عن حالات مشابهة طالت مدرسًا في أوكلاهوما كتب: "مات تشارلي كيرك بالطريقة التي عاشها: إخراج أسوأ ما في الناس"، وسارعت إدارة التعليم بالولاية لفتح تحقيق بحقه، ووصفت تصريحاته بأنها "مثيرة للاشمئزاز".
كما استُهدف موظفون في وكالات فيدرالية أمريكية، بينهم عاملة في الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ أعربت عن رفضها تنكيس الأعلام تكريمًا لكيرك، معتبرة إياه "عنصريًا ومعاديًا للنساء والمثليين"، بعد حملة قادتها الناشطة اليمينية لورا لومر، وُضعت الموظفة قيد الإجازة القسرية.
يتخذ الاستهداف طابعًا منظمًا، حيث أعلن مؤثرون يمينيون مثل جوي مانارينو أنهم يستخدمون تقنيات البحث العكسي عن الصور لتحديد هوية المنتقدين عبر الإنترنت، ما يحول الخلاف الرقمي إلى تبعات مهنية واجتماعية مباشرة، هذه الممارسات التي تشبه حملات التشهير، تضع المنتقدين أمام خطر فقدان وظائفهم وتشويه سمعتهم في فضاء عام محتدم.
الدولة بين الأمن والسياسة
الإدارة الأمريكية لم تبقَ محايدة. فالرئيس دونالد ترامب الذي اعتبر كيرك حليفًا بارزًا، وصفه بأنه "عملاق جيله"، وأمر بتنكيس الأعلام تكريمًا له، كما دعا مسؤولي البنتاغون ووزارة الخارجية إلى ملاحقة العسكريين والأجانب الذين "احتفلوا" بمقتله، في خطوات أثارت جدلاً واسعًا حول مدى مشروعية استخدام أجهزة الدولة لمعاقبة التعبير الفردي.
وزير الدفاع بيت هيغسيث وجّه بتحديد هوية عسكريين نشروا تعليقات ساخرة، في حين أصدر نائب وزير الخارجية كريستوفر لانداو تعليمات صارمة للقنصليات بعدم التساهل مع أجانب أبدوا مواقف مشابهة.
ردود فعل حقوقية
منظمات حقوقية أمريكية ودولية اعتبرت ما يحدث "تآكلًا خطِرًا لحرية التعبير"، وقد حذر الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (ACLU) من أن العقوبات المهنية بسبب التعبير عن الرأي، حتى لو كان صادمًا، تتعارض مع التعديل الأول في الدستور الأمريكي.
من جهتها، قالت منظمة هيومن رايتس ووتش إن "استخدام النفوذ السياسي والمؤسسات العامة لمعاقبة الأفراد على تعليقاتهم يعكس مناخًا متصاعدًا من القمع"، مشيرة إلى أن هذه الممارسات تشبه أنماطًا تشهدها دول توصف عادة بأنها غير ديمقراطية.
المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة شددت على أن حرية التعبير، ومنها التعليقات التي قد تُعتبر غير لائقة أو مستفزة، محمية بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا يجوز فرض عقوبات غير متناسبة على أصحابها، وحذرت من أن الخلط بين خطاب الكراهية والتعبير النقدي "يفتح الباب لتأويلات خطيرة تقيد الحقوق الأساسية".
أبعاد إنسانية وأخلاقية
بعيدًا عن الجدل القانوني، فإن فقدان أشخاص لوظائفهم أو خضوعهم للتحقيق بسبب منشور قصير على مواقع التواصل الاجتماعي لهما تبعات إنسانية قاسية، فالمعلم الذي يُحقق معه في أوكلاهوما يواجه خطر فقدان مصدر رزقه، والموظفة في وكالة الطوارئ أُجبرت على التوقف عن عملها، ما ينعكس مباشرة على أسرهم وحياتهم اليومية.
هذا الجانب الإنساني يجعل من القضية اختبارًا عمليًا لقدرة المجتمع الأمريكي على التوازن بين حماية حرية التعبير والحفاظ على السلم الاجتماعي.
تاريخيًا، شهدت الولايات المتحدة حالات مشابهة من التضييق في أوقات الأزمات، فخلال الحرب الباردة تعرض آلاف الموظفين لتحقيقات بسبب آرائهم السياسية أو انتماءاتهم، فيما عُرف بـ"المكارثية"، وفي أعقاب هجمات 11 سبتمبر، أُقرت قوانين وسياسات سمحت بتقييد بعض الحريات بدعوى الأمن القومي، غير أن الأزمة الحالية تختلف في كونها مرتبطة بشخصية عامة مثيرة للجدل، وليس بحدث أمني أو تهديد خارجي.
القضية تكشف عمق الانقسام السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة، فبينما يرى أنصار كيرك أن أي انتقاد له يُعد إهانة لرمز سياسي "استشهد" في سبيل قضيته، يؤكد آخرون أن التقديس المبالغ فيه لشخصيات عامة يقوض قيم النقاش الحر، وقد بلغ الاستقطاب درجة جعلت من التعبير عن الرأي مخاطرة قد تكلف الفرد عمله وسمعته وحتى سلامته الشخصية.
التأبين واستمرار الجدل
في مؤشر على مكانة كيرك في التيار المحافظ، نُقل نعشه بطائرة رسمية، وأُعلن عن إقامة حفل تأبين ضخم في ملعب يتسع لأكثر من 63 ألف متفرج في فينيكس، وهذه الرمزية السياسية عززت لدى مؤيديه صورة "الشهيد"، في حين زادت في الوقت ذاته حدة التوتر مع معارضيه الذين يخشون تحول الاغتيال إلى أداة لتبرير المزيد من القيود على حرية الرأي.
أزمة فقدان أمريكيين وظائفهم بسبب انتقاد تشارلي كيرك بعد اغتياله تتجاوز حدود الحادث الفردي لتطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل الديمقراطية الأمريكية، ففي ظل تنامي الرقابة الاجتماعية والسياسية، يواجه المواطنون معضلة حقيقية: هل يمكن التعبير عن الرأي بحرية دون الخوف من فقدان العمل أو التعرض للعقاب؟
القضية ليست فقط شأنًا أمريكيًا داخليًا، بل اختبار عالمي لقيم حقوق الإنسان، إذ يتابع العالم كيف تتعامل أعرق الديمقراطيات مع تحديات الاستقطاب والكراهية وصيانة حرية التعبير في آن.