الأرجنتين في عهد مايلي.. من ريادة حقوق الإنسان إلى قمع الحريات
الأرجنتين في عهد مايلي.. من ريادة حقوق الإنسان إلى قمع الحريات
عرفت الأرجنتين منذ نهاية حكمها العسكري عام 1983 بأنها نموذج إقليمي في محاسبة الانتهاكات وضمان عدم الإفلات من العقاب، خصوصاً مع محاكمة قادة المجلس العسكري عام 1985، غير أنّ هذا الإرث التاريخي يتعرض اليوم لتآكل خطير تحت حكم الرئيس خافيير مايلي، الذي اتخذت إدارته سلسلة من الخطوات المقيدة للحريات العامة، بدءاً من قمع المظاهرات وملاحقة الصحفيين، وصولاً إلى الانسحاب من آليات دولية لحقوق الإنسان، وهذا التحول يضع البلاد في مواجهة انتقادات.
انسحاب من مجلس حقوق الإنسان
وفق ما أورده موقع "argentinareports" أثار قرار الحكومة الأرجنتينية التخلي عن ترشيحها لعضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لأول مرة منذ تأسيسه عام 2006 صدمة لدى منظمات المجتمع المدني، فقد كانت الأرجنتين من الدول المؤسسة للمجلس، بل وترأسته في 2022… منظمة العفو الدولية وصفت الخطوة بأنها إشارة مقلقة إلى فقدان الالتزام بحماية حقوق المواطنين، وهذا الانسحاب، إلى جانب انتقادات الرئيس مايلي للمجلس باعتباره "أداة لأجندة يسارية"، يعكس توجهاً نحو العزلة الحقوقية الدولية، ويعيد إلى الأذهان محاولات سابقة لأنظمة استبدادية لتقليص الرقابة الدولية.
قمع الاحتجاجات وتجريم المعارضة
شهدت الشهور الماضية سلسلة من المواجهات العنيفة بين قوات الأمن والمتظاهرين، خاصة في العاصمة بوينس آيرس، ففي يونيو 2024 وثّق مركز الدراسات القانونية والاجتماعية (CELS) اعتقال 33 شخصاً بشكل تعسفي خلال احتجاجات، قبل أن يُفرج عنهم لاحقاً لغياب الأدلة، وفي مارس من العام ذاته لجأت السلطات إلى قوانين جديدة تجرم الاحتجاجات التي تؤدي إلى قطع الطرق، وتمنح الشرطة حق استخدام السلاح، وأسفرت العملية عن إصابة أكثر من 20 شخصاً واعتقال 114 آخرين، بينهم صحفي أصيب إصابة بالغة، وأدانت اللجنة الأمريكية لحقوق الإنسان الخطاب الرسمي الذي وصم المحتجين بـ"الإرهابيين"، معتبرة ذلك تهديداً خطيراً لحرية التعبير والتجمع.
استهداف الصحافة وتقويض حرية الإعلام
حرية الصحافة، أحد أبرز مكتسبات الديمقراطية الأرجنتينية بعد 1983، باتت اليوم مهددة بشكل مباشر، وسجلت منظمة “مراسلون بلا حدود” تراجع الأرجنتين 61 مركزاً في مؤشر حرية الصحافة العالمي خلال عامين فقط، لتنتقل من المرتبة الـ26 إلى الـ87، وهذا التدهور يعكس سياسات حكومية شملت تهديد الصحفيين بالدعاوى القضائية، ومداهمة منازلهم، والتضييق على وسائل الإعلام المستقلة، ووصف الاتحاد الدولي للصحفيين هذه الإجراءات بأنها شكل من أشكال الرقابة الممنهجة، كما أثارت خطة أقرها جهاز الاستخبارات في مايو 2025 قلقاً واسعاً، إذ تسمح بالتجسس على من يُعتبرون مهددين "لثقة الجمهور بالحكومة"، ما يفتح الباب أمام مراقبة الصحفيين والباحثين والمعارضين السياسيين.
الانسحاب من الأطر الدولية وتراجع الدور الخارجي
لم يقتصر التراجع الحقوقي على الداخل، بل انعكس على سياسة الأرجنتين الخارجية، ففي نوفمبر 2023 كانت الأرجنتين الدولة الوحيدة التي صوّتت ضد قرارات أممية تعزز حقوق المرأة والأقليات، فيما انسحبت لاحقاً من منظمة الصحة العالمية، وهذا الانسحاب من الأطر متعددة الأطراف يمثل قطيعة مع تقاليد السياسة الأرجنتينية، التي لطالما عُرفت بدعمها للمؤسسات الدولية وتعاونها مع آليات الأمم المتحدة لحماية حقوق الإنسان، منظمات دولية مثل "مكتب واشنطن لشؤون أمريكا اللاتينية" (WOLA) حذرت من أن هذه السياسات تعزز صورة بلد يتراجع عن التزاماته الحقوقية، بما يضعف موقفه التفاوضي في القضايا الاقتصادية والسياسية.
من المحاكمات إلى التلاعب بالذاكرة
تاريخ الأرجنتين القريب يشكل خلفية حاضرة في النقاش الراهن، فبعد سقوط الديكتاتورية العسكرية (1976-1983)، أدانت محاكم مدنية في 1985 خمسة من قادة المجلس العسكري بتهم تتعلق بالاختفاء القسري والتعذيب، وهذه المحاكمات اعتُبرت لحظة فاصلة في العدالة الانتقالية العالمية، غير أن الرئيس مايلي وحلفاءه شككوا مراراً في عدد الضحايا الذي يقدر بنحو 30 ألف شخص، في محاولة لإعادة كتابة التاريخ والتقليل من بشاعة الجرائم، وشددت منظمات حقوقية محلية، مثل أمهات ميدان مايو، على أن إنكار الماضي يهدد بتكرار الانتهاكات ويقوض الضمانات بعدم التكرار.
ردود فعل المجتمع المدني والمنظمات الدولية
جملة الانتقادات الموجهة إلى حكومة مايلي تتسع داخلياً وخارجياً، ومنظمات مثل CELS وأمنيستي وهيومن رايتس ووتش أصدرت تقارير متواترة تحذر من التراجع الخطير في الحقوق المدنية والسياسية، وطالبت اللجنة الأمريكية لحقوق الإنسان الحكومة بوقف الخطاب التحريضي ضد المتظاهرين واحترام المعايير الدولية، كما عبّرت صحف أرجنتينية بارزة مثل "لا ناسيون" عن قلقها من خطط التجسس والرقابة، معتبرة أن غموض القوانين يفتح الباب أمام إساءة استخدامها ضد المعارضة والإعلام.
تصاعد القمع الداخلي في الأرجنتين يتزامن مع ضغوط سياسية على حكومة مايلي؛ حزبه "لا ليبرتاد أفانزا" خسر الانتخابات المحلية في مقاطعة بوينس آيرس، وهي الأكبر من حيث عدد السكان، بفارق كبير، ما يشير إلى تآكل شعبيته، ويرى مراقبون أن هذه الخسارة قد تدفعه إلى مزيد من التشدد لقمع المعارضة والاحتجاجات المقبلة، خاصة مع اقتراب الانتخابات التشريعية. على الصعيد الاجتماعي، تؤدي السياسات القمعية إلى تعميق الانقسام بين الدولة والمجتمع، وخلق بيئة من الخوف والترهيب تشبه في بعض ملامحها أجواء ما قبل 1983.
القانون الدولي والالتزامات المهدورة
الأرجنتين، باعتبارها دولة طرفاً في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واتفاقيات أخرى، ملزمة قانوناً بضمان حرية التعبير والتجمع وحماية المدافعين عن حقوق الإنسان، والتراجع الحالي يضعها في موقع انتهاك لهذه الالتزامات، ما قد يؤدي إلى مراجعات في مجلس حقوق الإنسان والإجراءات الخاصة للأمم المتحدة. التخلي عن الترشيح لعضوية المجلس يفاقم الشكوك حول التزامها، ويضعف دورها كصوت إقليمي للحقوق.
من بلد قاد العالم في محاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، إلى حكومة تُتهم اليوم بالقمع وانتهاك الحريات الأساسية، تبدو الأرجنتين تحت حكم مايلي أمام مفترق طرق حاسم، واستعادة مسارها الحقوقي تتطلب عودة عاجلة إلى الالتزامات الدولية واحترام التعددية الديمقراطية، وإلا فإن الإرث التاريخي لمحاكمات 1985 قد يتحول إلى مجرد ذكرى باهتة في ظل حاضر يعج بالانتهاكات والرقابة والقمع.