اليابان تعيد صياغة التزاماتها.. خطة لوقف انتهاكات حقوق الإنسان في عالم الأعمال
اليابان تعيد صياغة التزاماتها.. خطة لوقف انتهاكات حقوق الإنسان في عالم الأعمال
تستعد اليابان لإطلاق مرحلة جديدة من إصلاح سياساتها الاقتصادية والحقوقية مع إعلانها مراجعة خطة العمل الوطنية للشركات بشأن منع انتهاكات حقوق الإنسان قبل نهاية العام، وتأتي الخطوة في لحظة حاسمة تشهد فيها سلاسل التوريد العالمية ضغوطاً متزايدة من الرأي العام الدولي والمستثمرين، تطالب الشركات الكبرى بتبنّي ممارسات أكثر شفافية وعدلاً تجاه العمال والمجتمعات المحلية، وبينما تتسارع التشريعات الأوروبية التي تُلزم الشركات بإجراء العناية الواجبة بحقوق الإنسان، تسعى طوكيو إلى تحديث أدواتها لحماية سمعة قطاعها الصناعي وضمان قدرته على المنافسة ضمن بيئة أعمال عالمية أكثر انضباطاً ومسؤولية.
تعود خطة العمل اليابانية الخاصة بحقوق الإنسان في قطاع الأعمال إلى عام 2020، حين أطلقتها الحكومة استناداً إلى المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان الصادرة عام 2011، كان الهدف منها حينها إرساء إطار وطني لتعزيز احترام حقوق الإنسان في أنشطة الشركات داخل اليابان وخارجها، لكن تقييم الخطة بعد خمس سنوات أظهر فجوة واضحة بين الطموحات والتنفيذ.
ففي حين تبنّت الشركات الكبرى سياسات واضحة في هذا المجال، بقيت الشركات الصغيرة والمتوسطة –التي تمثل أكثر من 99 في المئة من إجمالي عدد الشركات في اليابان– متأخرة في تطبيق تدابير العناية الواجبة، ولهذا وضعت الحكومة في مسودة الخطة المنقحة إجراءات تستهدف هذه الفئة تحديداً، لتشجيعها على إدماج المعايير الحقوقية ضمن عملياتها اليومية، سواء في التوظيف أو التوريد أو سلاسل الإمداد.
العناية الواجبة وحقوق الإنسان
تركز الخطة الجديدة على ترسيخ مفهوم العناية الواجبة بحقوق الإنسان داخل المؤسسات الاقتصادية، بما يشمل وضع أنظمة تقييم ومتابعة وإفصاح دوري عن المخاطر المرتبطة بانتهاكات الحقوق الأساسية للعاملين، وتتضمن المسودة إنشاء منصات لتبادل الخبرات بين الشركات وتوسيع نطاق الاستشارات والدعم الفني لمساعدة المؤسسات الصغيرة على الامتثال للمعايير الدولية.
وفي تصريح نقلته صحيفة “جابان تايمز”، أوضحت مصادر حكومية أن الغاية من الخطة الجديدة في اليابان ليست فقط حماية الأفراد من الانتهاكات، بل أيضاً “ضمان وتحسين القدرة التنافسية الدولية للشركات اليابانية”، وهو ما يعكس إدراك طوكيو أن احترام حقوق الإنسان أصبح اليوم جزءاً من سمعة الشركات ومؤشراً على استدامتها الاقتصادية.
في خطوة غير مسبوقة، أدخلت اليابان في خطتها الجديدة محوراً يتعلق بتقاطع التكنولوجيا وحقوق الإنسان، ولا سيما في ظل الانتشار السريع للذكاء الاصطناعي التوليدي، وتؤكد المسودة أن الحكومة تعمل على صياغة قواعد دولية تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي وتمنع انتهاكات الخصوصية والتلاعب بالمعلومات.
ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه المنطقة الآسيوية نقاشات متسارعة حول أثر الذكاء الاصطناعي على الوظائف والحريات الرقمية، فيما تحذر منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” من أن عدم وجود ضوابط واضحة قد يؤدي إلى أشكال جديدة من التمييز والمراقبة، خصوصاً ضد الفئات الأكثر هشاشة مثل العمال الأجانب والأشخاص ذوي الإعاقة.
استجابة للضغوط الدولية
تأتي هذه المراجعة أيضاً استجابة للضغوط المتزايدة من الاتحاد الأوروبي، الذي شرع في إعداد تشريعات تُلزم الشركات داخل الاتحاد وخارجه بإجراء العناية الواجبة في مجال حقوق الإنسان والبيئة، وبموجب هذه القوانين، ستكون الشركات الأوروبية مطالبة بمراجعة سلاسل التوريد الخاصة بها لتحديد المخاطر ومنع الانتهاكات، ما يعني أن الشركات اليابانية التي لا تمتثل لمعايير مماثلة قد تواجه خطر فقدان شراكاتها مع نظيراتها الأوروبية.
وفي هذا السياق، دعا اتحاد الأعمال الياباني المعروف باسم “كيدانرين” الحكومة إلى إنشاء مبادرة مشتركة بين القطاعين العام والخاص لدعم الشركات في تنفيذ إجراءات الامتثال الحقوقي، مشيراً إلى أن “التأخر في هذا المجال قد يُضعف القدرة التنافسية اليابانية ويعرض علاقاتها التجارية لمخاطر قانونية واقتصادية”.
من الاقتصاد إلى المسؤولية
تاريخياً، عُرفت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية بانضباطها الصناعي واعتمادها على قيم العمل الجماعي، لكنها واجهت انتقادات متكررة من منظمات العمل الدولية بسبب ضعف حماية العمال المؤقتين، وتزايد ساعات العمل المفرطة، وغياب تمثيل نقابي فعال في بعض القطاعات، ومع توسع الشركات اليابانية عالمياً منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت تظهر حالات لانتهاكات في سلاسل التوريد الخارجية، خاصة في مصانع تعمل في دول نامية آسيوية.
وفي السنوات الأخيرة، ازداد التركيز على حقوق العمال الأجانب في اليابان نفسها، الذين يُقدّر عددهم بأكثر من مليوني عامل، كثير منهم من جنوب شرق آسيا، وقد سجلت منظمات محلية شكاوى بشأن ظروف عمل قاسية، وحالات استغلال في برامج “التدريب التقني” التي انتُقدت لكونها واجهة لتوفير عمالة رخيصة، وتشير الخطة الحكومية الجديدة صراحة إلى ضرورة حماية هذه الفئة، إلى جانب الأشخاص ذوي الإعاقة والأطفال وكبار السن.
تُعد خطة اليابان امتداداً مباشراً للمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، التي أقرها مجلس حقوق الإنسان عام 2011، وتشكل الإطار العالمي لمفهوم “الاحترام والحماية والانتصاف”، وقد دعت المفوضة السامية لحقوق الإنسان في أكثر من مناسبة إلى أن تكون الخطط الوطنية في هذا المجال “أكثر من مجرد وثائق نوايا”، مطالبة الدول بإدراج آليات تنفيذ ومساءلة حقيقية.
وفي تقرير صدر هذا العام، أشادت المفوضية بخطوات اليابان لتوسيع نطاق العناية الواجبة، لكنها شددت على ضرورة أن تشمل الخطة الجديدة أدوات إلزامية لمحاسبة الشركات التي تنتهك الحقوق، خصوصاً في قطاع التكنولوجيا وسلاسل التوريد الخارجية.
التحديات الاقتصادية والاجتماعية
ورغم الطابع الإيجابي للمراجعة الجديدة، فإن تنفيذها على أرض الواقع يواجه تحديات معقدة، فالشركات الصغيرة والمتوسطة كثيراً ما تفتقر إلى الموارد والخبرة اللازمة لتطبيق معايير حقوق الإنسان، بينما قد ترى بعض المؤسسات أن الالتزام بتلك المعايير عبء إضافي في ظل المنافسة الحادة وتراجع النمو الاقتصادي.
إلا أن الخبراء يرون أن الخطة، إذا نُفذت بفاعلية، قد تعزز سمعة اليابان كدولة رائدة في الإدارة المسؤولة، وتوفر حماية أفضل للعمال والمجتمعات المحلية، وتفتح الباب أمام استثمارات أجنبية قائمة على الثقة والاستدامة.
تسعى طوكيو من خلال خطتها المنقحة إلى الموازنة بين المصالح الاقتصادية والالتزامات الحقوقية، في سياق عالمي أصبحت فيه القيم الإنسانية جزءاً لا يتجزأ من بيئة الأعمال، وإذا ما نجحت الحكومة اليابانية في وضع آليات رقابة شفافة، ومساءلة الشركات عن ممارساتها داخل وخارج البلاد، فقد تشكل تجربتها نموذجاً يُحتذى في آسيا.
فالتحول من مجرد الامتثال الشكلي إلى الالتزام الفعلي بحقوق الإنسان لا يحمي فقط سمعة العلامة التجارية اليابانية، بل يسهم في بناء اقتصاد عالمي أكثر عدلاً وإنسانية، وبين ضغوط العولمة وتحديات التكنولوجيا، تبقى اليابان أمام اختبار حقيقي لتأكيد أن التنمية لا يمكن أن تُقاس بالأرباح وحدها، بل بمدى احترام كرامة الإنسان في كل خطوة من خطواتها.