الاتحاد الأوروبي على مفترق القيم.. أغلبية الأوروبيين تؤيد حقوق الإنسان وحماية البيئة
الاتحاد الأوروبي على مفترق القيم.. أغلبية الأوروبيين تؤيد حقوق الإنسان وحماية البيئة
أظهر استطلاع جديد أجراه معهد إبسوس لصالح منظمتَي العفو الدولية وغلوبال ويتنس أن غالبية مواطني عشر دول أوروبية تطالب الاتحاد الأوروبي بالتمسّك بالتزاماته في حماية البيئة ومساءلة الشركات عن انتهاكات حقوق الإنسان في سلاسل التوريد العالمية.
وبحسب تقرير نشرته منظمة العفو الدولية "أمنستي"، عبّر نحو ثلاثة أرباع المشاركين عن تأييدهم لوجوب محاسبة الشركات عن الانتهاكات والأضرار البيئية، و58 بالمئة أكدوا دعمهم لتوجيه الاستدامة الشركاتية (CSDDD) التي اعتمدها الاتحاد العام الماضي، وهذه النتيجة ترسل رسالة مباشرة إلى مقرّري السياسات في بروكسل في وقت يلوح فيه احتمال تعديل قواعد سبق إقرارها لتخفيف الالتزامات على الشركات.
التشدد في حقوق الإنسان والبيئة
تتضح الأسباب من التقاء عاملين: أولاً، تجارب ملموسة لحوادث انتهاك حقوق الإنسان والأذى البيئي المرتبط بسلاسل إمداد دولية، والتي وصلت إلى وعي المستهلكين والإعلام الأوروبي، وثانياً، مخاوف اقتصادية متزايدة؛ حيث إن 87 بالمئة من المستطلعين ذكروا ارتفاع تكلفة المعيشة خلال السنة الماضية، لكن الغالبية لا تربط بين سياسات المناخ ورفع الأعباء مباشرة، ما يبيّن أن الدعم للشروط البيئية لا يتناقض بالضرورة مع الضغوط المعيشية، وهذا المزج بين الوعي الأخلاقي والقلق الاقتصادي يوفر أرضية شعبية قوية لدفاع أوسع عن حقوق الإنسان وحماية البيئة.
كان الإطار القانوني في الاتحاد الأوروبي قد وصل في 2024 إلى نقطة فاصلة مع دخول توجيه الاستدامة الشركاتية حيز التنفيذ، إذ فرضت واجبات تحقق، وعلى الشركات أن تتعامل مع آثار أنشطتها في حقوق الإنسان والبيئة، والهدف المعلن كان حماية الضحايا وإحداث انتقال اقتصادي مستدام وصولاً إلى حياد كربوني بحلول 2050، لكن في 26 شباط/فبراير 2025 طرحت المفوضية حزمة تعديل تسمّيها "المقترح الشامل" أو Omnibus، تقترح تعديلات قد تقلص من نطاق التطبيق وتخفّض متطلبات التقارير والتحقق، في خطوة أثارت مخاوف من تآكل مكتسبات تشريعية حديثة، وهذه المسارات تقود حالياً إلى مفترق تشريعي في البرلمان والمجلس الأوروبيين.
انعكاسات التراجع المحتمل
تضعف الضمانات القانونية ثلاثة عناصر أساسية: أولاً، يقلّ احتمال حصول ضحايا انتهاكات العمل والتلوث على تعويض حقيقي وإنصاف قضائي، خاصة إذا أُضعفت آليات المسؤولية المدنية الموحدة، وثانياً، يخشى نشطاء البيئة أن يؤدي تراجع الالتزامات إلى تباطؤ فعلي في انتقال الشركات نحو تخفيض الانبعاثات، ما يعرقل تحقيق أهداف المناخ القارية، وثالثاً، ينعكس ذلك إنسانياً في دولٍ خارج أوروبا حيث تعيش المجتمعات المتأثرة بالاستغلال والتلوث؛ فضعف القوانين الأوروبية يعني تقليص منابر المساءلة الدولية لمواجهة أضرار تُرتكب على بعد آلاف الكيلومترات.
تجاوبت منظمات المجتمع المدني بسرعة، حيث وقعت أكثر من 360 منظمة في أكثر من 50 دولة بياناً مشتركاً يندد بالمقترح الشامل ويدعو إلى رفض أي تراجع عن معايير المساءلة والاستدامة، وطالبت قيادات منظمات، مثل غلوبال ويتنس والعفو الدولية، البرلمان الأوروبي بأن يقف مع إرادة المواطنين ويقاوم ضغوط جماعات المصالح التي تسوّق لتخفيف الالتزامات بدعوى حماية القدرة التنافسية، ويركز نصّ المطالب على صيانة نطاق CSDDD، وحماية آليات المسؤولية المدنية، وتعزيز أدوات الرقابة والشفافية وصولاً إلى ضمان سبل انتصاف فعّالة للضحايا.
المشهد داخل مؤسسات الاتحاد
المعركة القانونية والسياسية ليست نظرية؛ فصناديق الاقتراع العامة أرسلت رسالة واضحة، لكن قرار الطريق التشريعي مرهون بتوازنات داخل البرلمان والمجلس والدول الأعضاء، وسبق أن صوت البرلمان في أبريل 2025 على تأجيل تطبيق بعض قواعد الاستدامة، في حين تتجه لجان برلمان إلى مناقشة الصيغ التعديلية مع موعد تصويت حاسم متوقع في منتصف أكتوبر الجاري، ونتائج هذه المداولات ستحدد إذا ما كانت أوروبا ستصون مكتسباتها أم تستجيب لضغوط تبسيط قد تفتح ثغرات واسعة في حماية الحقوق والبيئة.
أي نقاش حول تراجع الأحكام الأوروبية يجب قراءته في ضوء المعايير الدولية، حيث تشكل مبادئ الأمم المتحدة بشأن الأعمال وحقوق الإنسان، وإرشادات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للشركات متعددة الجنسيات، والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان مرجعاً للالتزام بحماية الأرواح والبيئة، وتآكل الحماية على مستوى الاتحاد الأوروبي قد يخلق فجوة بين الالتزامات الدولية والنفاذ القانوني، ما يدفع للبحث عن آليات مكملة دولية وإقليمية للتعويض والمساءلة.
توصيات المجتمع المدني
تطالب منظمات المجتمع المدني بحلول عملية قابلة للتنفيذ، منها الحفاظ على نطاق CSDDD كما أُقرّ، وإقرار نظام مسؤولية مدنية فعال يتيح للضحايا في الخارج الطعن في سلاسل قيمة الشركات، ودعم فني ومالي للشركات الصغيرة للتكيف مع المتطلبات دون التذرع بكلفة اقتصادية، وآليات شفافة للإبلاغ والمساءلة مرتبطة بمؤشرات أداء قابلة للقياس، ويظهر الاستطلاع أرضية شعبية متاحة لدعم مثل هذه الخيارات المتوازنة التي تجمع بين العدالة الاجتماعية والمرونة الاقتصادية.
وبحسب منظمة العفو الدولية فالبرلمان الأوروبي الآن أمام اختبار مصداقية هل ستكرّس بروكسل مكانتها الدولية منارة لحماية الحقوق والبيئة، أم تسمح لتوازنات ضيقة أن تُضعف قواعد صُممت لحماية البشر والكوكب؟ ويضع الاستطلاع الخيار في خانة السياسة الشرعية؛ إذ إن مواطني عشر دول أوروبيين يعلنون بوضوح تفضيلهم لحقوق الإنسان والبيئة على تسهيلات مؤقتة للشركات، والقرار الذي تتخذه المؤسسات الأوروبية لن يؤثر فقط في مسار التشريع، بل في ثقة الناس بقدرتها على ترجمة القيم إلى حماية فعلية لمن هم في الطرف الأضعف من سلاسل القيمة العالمية.