رغم إعلان وقف إطلاق النار.. مدنيّو غزة يواجهون الموت جوعاً وقصفاً
رغم إعلان وقف إطلاق النار.. مدنيّو غزة يواجهون الموت جوعاً وقصفاً
رغم دخول اتفاق "وقف إطلاق النار" حيز التنفيذ في قطاع غزة، لا تزال أصوات الانفجارات تعلو فوق صرخات الأهالي الذين لم يعرفوا طعم الهدوء منذ أكثر من عام، فمع ساعات فجر السبت، انتشلت طواقم الإنقاذ الفلسطينية جثامين 135 شهيدًا من تحت الأنقاض، فيما استقبلت مستشفيات القطاع 155 شهيدًا جديدًا خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، وفق ما أعلنت وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية "وفا" نقلًا عن مصادر طبية.
الهدوء المنتظر لم يأتِ بعد بالصورة المرجوة، فقد واصلت طائرات الجيش الإسرائيلي قصف مناطق متفرقة من شمال غزة حتى جنوبها، مستهدفة منازل المدنيين والأحياء المكتظة بالسكان، وأسفرت إحدى الغارات عن استشهاد 19 فلسطينيًا في قصف جديد على منزل في جنوب مدينة غزة، كما شنت الطائرات الحربية غارات أخرى في محيط خان يونس وبلدة بيت لاهيا، وسط تحليق مكثف للطيران الإسرائيلي في أجواء القطاع.
استمرار القصف رغم الاتفاق
لم يمضِ سوى ساعات قليلة على دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ حتى تجددت الانتهاكات الإسرائيلية على الأرض، وأفادت مصادر ميدانية بأن القوات الإسرائيلية واصلت استهداف مناطق مدنية بذريعة الرد على "خروقات" مزعومة من فصائل المقاومة، فيما نفى الجانب الفلسطيني وجود أي خرق للاتفاق.
وفي الضفة الغربية، امتدت الاعتداءات الإسرائيلية لتشمل مدينة الخليل، حيث أصيب شاب برصاص قوات الجيش واعتُقل ستة آخرون بينهم سيدتان، كما أُغلقت الطرق الرئيسية بالحواجز العسكرية والبوابات الحديدية.
يأتي ذلك في وقت تتزايد فيه الدعوات الدولية لمحاسبة إسرائيل على خرقها المتكرر لاتفاقات وقف النار السابقة، ولوقف الانتهاكات الممنهجة بحق المدنيين في غزة والضفة الغربية على حد سواء.
أرقام مفزعة لحصيلة الضحايا
الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة في قطاع غزة تصف مأساة تفوق حدود اللغة، فقد بلغت حصيلة الشهداء منذ السابع من أكتوبر 2023 نحو 67,682 شهيدًا، إضافة إلى 170,033 مصابًا، في واحدة من أكثر الحملات العسكرية دموية في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وفي الساعات الأخيرة وحدها، سُجل وصول 151 شهيدًا جديدًا (منهم 116 تم انتشالهم من تحت الأنقاض) إلى المستشفيات، إلى جانب 72 مصابًا بجروح متفاوتة.
وتكشف الإحصاءات أن 2,615 من الشهداء هم من العمال وعمال الإغاثة ولقمة العيش، بينما تجاوز عدد المصابين في صفوفهم 19,177 إصابة، ومنذ 18 مارس 2025 وحتى اليوم ارتفع العدد إلى 13,598 شهيدًا و57,849 مصابًا، وهي حصيلة تعكس استمرار العدوان رغم تعهدات التهدئة المتكررة.
مأساة تتجاوز حدود القصف
تُفاقم الأزمة الغذائية والصحية الأوضاع الكارثية في القطاع المحاصر، إذ أعلنت منظمة "التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي" عن دخول غزة رسميًا في مرحلة المجاعة منذ مارس الماضي، وتشير التقارير إلى وفاة 463 شخصًا بسبب الجوع وسوء التغذية، بينهم 157 طفلًا، فيما سُجلت منذ إعلان المجاعة 185 حالة وفاة جديدة، غالبيتها بين الأطفال والمرضى وكبار السن.
في مخيمات النزوح المؤقتة، تتحدث شهادات الأهالي عن "موت بطيء" يهدد من تبقّى على قيد الحياة، فمع ندرة المياه الصالحة للشرب وانهيار المنظومة الصحية، لم تعد المستشفيات قادرة على استقبال مزيد من المصابين، فيما تفتقر مراكز الإغاثة إلى الأدوية والمحاليل الطبية.
وتقول فرق الدفاع المدني إن عشرات الجثامين لا تزال تحت الركام في مناطق متعددة من مدينة غزة ورفح وخان يونس، غير أن وصولها إلى الضحايا بات شبه مستحيل بسبب استمرار القصف وتعطل معظم آليات الإنقاذ.
كما تشير التقارير إلى أن فرق الإنقاذ في قطاع غزة تعمل بإمكانات محدودة للغاية، حيث فقدت أكثر من 80% من معداتها بسبب القصف المباشر على مقارها، بينما تفتقر إلى الوقود اللازم لتشغيل سيارات الإسعاف والآليات الثقيلة.
هذا العجز الميداني، إضافة إلى نقص الموارد الطبية، يجعل عملية إنقاذ الأحياء وانتشال الجثامين عملية محفوفة بالمخاطر، وغالبًا ما تُنجز بالوسائل اليدوية وبمساعدة السكان المحليين.
أزمة مستمرة رغم الوعود الدولية
منذ بدء العدوان في أكتوبر 2023، لم تفلح النداءات الأممية المتكررة في وضع حد للعمليات العسكرية الإسرائيلية أو في تأمين ممرات إنسانية آمنة لإدخال المساعدات.
الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية مثل "أونروا" و"الصليب الأحمر" تؤكد أن القطاع يعيش "أزمة إنسانية غير مسبوقة"، إذ يعتمد أكثر من 90% من السكان على المساعدات للبقاء على قيد الحياة.
وقد أعرب الأمين العام للأمم المتحدة في تصريحات حديثة عن "صدمته" من استمرار الغارات رغم إعلان وقف إطلاق النار، مشددًا على أن "استهداف المدنيين والبنى التحتية المدنية يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني".
أما المفوضة السامية لحقوق الإنسان فأكدت أن "الإفلات من العقاب هو ما يشجع على تكرار الجرائم"، مطالبةً بتحقيق مستقل وشفاف حول جرائم الحرب والانتهاكات المحتملة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في غزة.
عام من النار والجوع
بدأت الجولة الحالية من الحرب في السابع من أكتوبر 2023، حين شنّ الجيش الإسرائيلي حملة عسكرية واسعة على قطاع غزة بعد عملية نفذتها فصائل المقاومة داخل إسرائيل، ومنذ ذلك التاريخ، تحوّل القطاع إلى ساحة دمار غير مسبوقة، حيث دُمّرت أحياء بكاملها، وتعرضت المستشفيات والمدارس والملاجئ للقصف، فيما نزح أكثر من 1.9 مليون فلسطيني عن منازلهم.
المنظمات الحقوقية الدولية وصفت ما يجري بأنه "أزمة إنسانية مركّبة"، يتداخل فيها الحرب والحصار وانهيار الخدمات الأساسية مع خطر المجاعة والأوبئة.
وبحسب اتفاقيات جنيف، يُعد استهداف المدنيين والبنى التحتية المدنية جريمة حرب تستوجب المحاسبة الدولية، وتطالب منظمات حقوق الإنسان بإحالة ملف غزة إلى المحكمة الجنائية الدولية، في ظل وجود أدلة موثقة على استهداف المدارس والمستشفيات والملاجئ التابعة للأمم المتحدة.
وقد كررت منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" دعوتها إلى فرض حظر شامل على تصدير الأسلحة لإسرائيل، ووقف أي دعم عسكري يمكن أن يُستخدم في عمليات تنتهك القانون الدولي.
بين الركام والأمل
في أزقة غزة المدمّرة، لا تزال أصوات الأمهات تتردد بحثًا عن أبنائهن المفقودين تحت الأنقاض، بعض الناجين يحفرون بأيديهم في الركام، فيما يحاول آخرون العثور على مأوى يحتمي من القصف أو من الجوع.
الوجع لا يفارق المدينة التي اعتادت انتظار الهدنة بعد كل جولة دم، لكنها لم تعرف يومًا سلامًا حقيقيًا، ومع كل إعلان عن "وقف لإطلاق النار"، يبقى السؤال الإنساني معلقًا: متى يتوقف الموت في غزة؟
تواصل غزة نزيفها في ظل غياب المساءلة الدولية وتكرار وعود الهدوء التي لا تُترجم على الأرض، فبين جثامين تُنتشل وأحياء تُمحى من الوجود، يبقى المدني الفلسطيني هو الخاسر الأكبر، يواجه الموت بالقصف والجوع والخذلان الدولي.