من تحت الركام إلى أروقة العدالة.. كيف توثق غزة جرائم الإبادة؟

من تحت الركام إلى أروقة العدالة.. كيف توثق غزة جرائم الإبادة؟
أم فلسطينية تبكي صغيرها

بين ركام المنازل المهدّمة في قطاع غزة، وبين أصوات الأمهات اللواتي يبحثن عن أبنائهن بين الأنقاض، تتشكل ذاكرة فلسطينية جديدة، لا تكتفي بالبكاء على الشهداء، بل توثّق وجعهم ليكون شهادة أمام التاريخ. 

ومنذ اندلاع حرب الإبادة في القطاع قبل عامين، تعمل مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية في ظروف إنسانية غاية في الصعوبة، على رصد وتوثيق ما تعده جرائم ممنهجة تمارسها السلطات الإسرائيلية ضد المدنيين، تمهيدًا لرفعها أمام المحاكم الدولية وملاحقة مرتكبيها.

تقول الأرقام إن أكثر من 67 ألف فلسطيني استشهدوا خلال الحرب، وإن 170 ألفًا أُصيبوا بجروح، غالبيتهم من الأطفال والنساء. هذه الأعداد لا تروي فقط مأساة بشرية مهولة، بل تشكل مادة قانونية توثق جريمة الإبادة الجماعية بكل معانيها، وفق ما يصفه خبراء القانون الدولي.

غرف عمليات إنسانية

في قطاع غزة المحاصر، تحولت المكاتب الحقوقية إلى غرف عمليات إنسانية تعمل تحت النار، فالمحققون الميدانيون في مؤسسات مثل مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان يجوبون المناطق المنكوبة بعد كل غارة، يجمعون الشهادات والصور، ويسجلون إفادات الناجين المذيلة بالأيمان القانونية، يدوّنون أسماء الضحايا وأعمارهم وأماكن استهدافهم، ويحددون نوع السلاح الذي استخدم، ويعتمدون على نظام التموضع العالمي (GPS) لتثبيت مواقع الجرائم بدقة.

في تصريحات إعلامية قال علاء السكافي مدير المؤسسة إن طواقم الرصد لا تكتفي بجمع الشهادات، بل توثق أيضًا البيانات الطبية وتقارير وزارة الصحة وتقارير الدفاع المدني، لتكوين صورة مكتملة للأحداث، ويضيف: “نحن لا نرصد فقط من قُتلوا، بل من فُقدوا ومن دُمّرت منازلهم ومن أصيبوا بصدمات نفسية؛ لأن الأذى العقلي والجسدي جزء من بنية الجريمة وفق القانون الدولي”.

ويصف السكافي عملية التوثيق بأنها عمل ضد الزمن، إذ تُنقل البيانات فورًا إلى فرق قانونية تعمل على صياغة ملفات شاملة تُعرض لاحقًا على المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، إضافة إلى هيئات الأمم المتحدة المعنية، ويضيف: “كل شهادة تُجمع اليوم ربما تكون حجر الأساس في دعوى الغد”.

توثيق الانتهاكات اليومية

في المقابل، تعمل مؤسسات قانونية في الضفة الغربية على توثيق الانتهاكات الإسرائيلية اليومية من قتل وتهجير وهدم منازل واستيلاء على الأراضي، وبحسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، فإن العمل القانوني يبدأ من الميدان، حيث يُفتح لكل جريمة ملف يتضمن روايات الضحايا وصور الأقمار الصناعية وتقارير منظمات محلية ودولية، ثم يُبنى الملف وفق ثلاثة عناصر أساسية: الجانب القانوني المستند إلى الاتفاقيات الدولية، والعنصر المادي الذي يثبت وقوع الجريمة بالدلائل الملموسة، والعنصر المعنوي الذي يثبت النية المسبقة لارتكاب الفعل.

تصريحات المسؤولين الإسرائيليين كثيرًا ما تشكل دليلًا دامغًا على القصد الجنائي، فحين يعلن مسؤول عسكري قطع الكهرباء والمياه عن غزة أو يتحدث عن محو الأحياء السكنية، فإن ذلك يرقى إلى نية واضحة لإبادة المدنيين، وهو ما استندت إليه بعض الدول مثل جنوب إفريقيا في رفع دعاوى أمام محكمة العدل الدولية.

بعد جمع الأدلة، تُرسل الملفات القانونية بطرق متعددة، منها عبر منصة إلكترونية خاصة بالمحكمة الجنائية الدولية لاستقبال بلاغات الجرائم وفق ميثاق روما، أو عبر مخاطبات رسمية إلى المقررين الخواص في الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، كما تُرفع نداءات عاجلة حول القتل خارج نطاق القانون والاحتجاز التعسفي والجرائم ضد الأطفال، في محاولة لوقف النزيف أو على الأقل توثيقه لحظة بلحظة.

ورغم هذا الجهد المضني، تواجه المؤسسات الحقوقية الفلسطينية حربًا سياسية موازية فقد فرضت الإدارة الأمريكية في سبتمبر الماضي عقوبات على ثلاث مؤسسات فلسطينية رئيسية، هي مؤسسة الحق ومركز الميزان والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، متهمة إياها بـ"الانخراط في جهود محاكمة إسرائيليين دون موافقة تل أبيب". 

توثيق ذاكرة الأمة

داخل هذه المعركة، لا يشعر الحقوقيون أنهم مجرد موظفين يوثقون الجرائم الإسرائيلية، بل رسل ذاكرة أمة تحاول أن تخلّد الحقيقة قبل أن تُطمس، يقول أحد الباحثين الميدانيين في غزة: “أحيانًا نصل إلى موقع القصف ونجد طفلاً تحت الركام، لا نستطيع إنقاذه، لكننا نلتقط صورته ونسجل اسمه لأننا نؤمن أن العدالة تبدأ من الشهادة”.

ومع أن الطريق إلى العدالة الدولية لا يزال طويلًا وشائكًا، فإن العمل الحقوقي الفلسطيني أرسى خلال العامين الماضيين قاعدة بيانات ضخمة تُعد من الأكبر في تاريخ النزاعات المعاصرة، هذه الملفات لا تمثل مجرد وثائق قانونية، بل شهادة حياة وصرخة ضد الإفلات من العقاب.

ورغم بطء إجراءات المحاكم الدولية وضغوط السياسة، فإن الفلسطينيين يواصلون توثيق جراحهم بالحبر والصورة، مؤمنين بأن العدالة قد تتأخر لكنها لا تموت، فكل وثيقة تُحفظ، وكل شهادة تُكتب، وكل دمعة تُسجل، هي جزء من ملف العدالة الكبرى الذي سيُفتح يومًا ما أمام العالم، لتُقال الحقيقة كما هي: إن غزة، رغم الإبادة، لم تفقد صوتها، ولم تتخلّ عن حقها في أن تُروى قصتها كما عاشتها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية