الاحتجاج من أجل البقاء.. كيف تحوّل الدفاع عن البيئة إلى جريمة؟
الاحتجاج من أجل البقاء.. كيف تحوّل الدفاع عن البيئة إلى جريمة؟
في الوقت الذي يواجه فيه العالم سباقًا حرجًا مع الزمن للحد من الاحتباس الحراري وتداعياته الوجودية، تتزايد موجة غير مسبوقة من القمع ضد المدافعين عن حقوق الإنسان الذين ينظمون جهودًا سلمية للوقاية من الكارثة المناخية.
وتكشف تقارير أممية حديثة عن تصاعد مقلق في الأعمال الانتقامية التي تستهدف النشطاء البيئيين، في دولٍ تدّعي التزامها بأهداف المناخ، بينما تُجرّم الأصوات التي تُذكّرها بمسؤولياتها.
وفق تقرير أوردته صحيفة "الغارديان" البريطانية الاثنين، تقول ماري لولور، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالمدافعين عن حقوق الإنسان، إن “العالم يسير في طريقٍ نحو الدمار”، محذّرة من أن "الحكومات التي تتحدث عن حماية المناخ في المؤتمرات الدولية، هي نفسها التي تجرّم المدافعين عنه على الأرض".
قمع تحت شعار القانون
يُوثق التقرير الذي تُقدّمه لولور إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر الجاري، تحت عنوان “نقاط التحول: المدافعون عن حقوق الإنسان، وتغير المناخ، والانتقال العادل”، مئات الحالات التي تم فيها تشويه سمعة النشطاء أو تجريمهم بسبب احتجاجات سلمية أو أعمال عصيان مدني بيئي.
تتراوح التهم التي تُوجّه إليهم بين الإرهاب، والتحريض على الفتنة، والاضطراب العام، والتآمر، وهي تهمٌ تُستخدم –كما تقول المقررة الأممية– كوسائل سياسية لإسكات الأصوات المناهضة لمشاريع الوقود الأحفوري أو لممارسات الشركات الكبرى التي تهدد البيئة.
وتشير لولور إلى أن بعض الدول التي تعد من أبرز الداعمين المعلنين لحقوق الإنسان، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا، هي ذاتها التي تقود هذا الاتجاه المقلق، عبر تشريعات جديدة تُضيّق حق التظاهر وتُجرّم العصيان المدني.
نماذج من القمع الممنهج
في المملكة المتحدة، تم في ديسمبر 2023 سجن الناشط البيئي ستيفن جينجل، أحد أعضاء منظمة "جاست ستوب أويل"، بموجب قانون النظام العام الجديد، بعد مشاركته في مسيرة سلمية بطيئة في أحد شوارع لندن، وتصف لولور ذلك بأنه سابقة خطيرة، تُكرّس لاستخدام القوانين ضد الحق في الاحتجاج.
أما في الولايات المتحدة، فقد وُجّهت نحو ألف قضية جنائية ضد نشطاء البيئة والمناخ في ولاية مينيسوتا شاركوا في احتجاجات سلمية ضد مشروع خط أنابيب النفط "لاين 3"، وتضمنت التهم محاولة الانتحار بمساعدة الغير والتعدي على البنية التحتية الحيوية، وهي اتهامات وُصفت من قبل منظمات حقوقية بأنها “عبثية” وتهدف لاستنزاف النشطاء عبر الدعاوى القضائية.
تُعيد هذه الوقائع إلى الأذهان ما حدث في عام 2016 أثناء احتجاجات السكان الأصليين ضد خط أنابيب "داكوتا أكسس"، حيث تعاونت الشركات النفطية مع أجهزة الشرطة لقمع الحركة الاحتجاجية، ويرى مراقبون أن هذا التعاون بين القطاع الخاص والأجهزة الأمنية بات نمطًا متكرّرًا في التعامل مع قضايا المناخ.
من التظاهر إلى الإرهاب البيئي
يتسع نطاق تجريم نشطاء وحركات العمل المناخي ليصل إلى مستويات غير مسبوقة، ففي فرنسا، اتهم وزير الداخلية السابق –ووزير العدل الحالي– في عام 2022 الحركة البيئية الوطنية "أرواح الأرض" بالإرهاب البيئي، بعد تنظيمها احتجاجات ضد مشاريع تضرّ بالبيئة، ورغم أن أعلى محكمة إدارية في البلاد ألغت القرار لاحقًا، إلا أن وصمة “الإرهاب” تركت أثرًا عميقًا في الخطاب العام تجاه النشطاء البيئيين.
وفي فيتنام، حُكم على المحامي البيئي دانغ دينه باخ بالسجن خمس سنوات بتهمة التهرب الضريبي، بعد دعوته إلى التحول بعيدًا عن الفحم، في خطوة وصفها خبراء الأمم المتحدة بأنها احتجاز تعسفي، كما أشار التقرير إلى أن التحول الأخضر في دول الجنوب العالمي يُستخدم أحيانًا غطاءً لقمع المجتمعات المحلية، خاصةً تلك التي تعترض على استغلال أراضيها باسم التنمية المستدامة.
ويُحذر التقرير الأممي من أن التحوّل نحو مصادر الطاقة غير الأحفورية لا يضمن بالضرورة العدالة البيئية أو الحقوقية، فمع تصاعد الطلب العالمي على المعادن الحيوية مثل الليثيوم والكوبالت والنحاس، تتزايد عمليات الاستيلاء على الأراضي وانتهاكات حقوق السكان الأصليين في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
في كينيا، استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريق احتجاجات قرويين في منطقة أويومبو عام 2024، رفضًا لبناء محطة طاقة نووية على أراضيهم دون استشارتهم، ووثّقت منظمات محلية إصابات عديدة في صفوف المدنيين، ما يعكس هشاشة مبدأ الموافقة "الحرة والمسبقة" الذي يُفترض أن يُطبّق في مثل هذه المشاريع.
تراجع الحماية الدولية
على الرغم من أن الأمم المتحدة تبنّت عام 1998 إعلان حماية المدافعين عن حقوق الإنسان، فإن الواقع الحالي يُظهر تآكل الضمانات القانونية، خصوصًا مع تنامي التشريعات المقيدة للحريات في دول الديمقراطيات الليبرالية نفسها.
بحسب منظمة "فرونت لاين ديفندرز"، قُتل ما لا يقل عن 401 من النشطاء والمدافعين عن البيئة وحقوق الأراضي في عام 2023، أكثر من 60% منهم في أمريكا اللاتينية، وفي كل من البرازيل وكولومبيا والمكسيك، تُشير التقارير إلى أن شركات التعدين والطاقة هي الأكثر ارتباطًا بهذه الانتهاكات.
أما في أوروبا فقد حذّرت المفوضية الأوروبية من “اتساع فجوة الثقة” بين الحكومات والمجتمع المدني بعد سنّ قوانين “الأمن العام” التي تقيد حرية التجمع، مؤكدةً أن “الاحتجاج السلمي ضد تدمير البيئة ليس جريمة، بل هو تعبير عن الديمقراطية”.
ويؤكد التقرير الأممي ضرورة وقف تجريم المدافعين عن المناخ فورًا، وإشراكهم في صياغة السياسات البيئية بوصفهم شركاء لا خصومًا، وتشدد لولور على أن "المدافعين عن البيئة لا يدافعون عن الطبيعة فقط، بل عن الحق في الحياة، والصحة، والمياه النظيفة، والغذاء، وهي حقوق إنسانية أساسية".
وتضيف: لا يمكن لأي حكومة أو شركة أو مؤسسة مالية أن تدّعي التزامها بالاستدامة بينما تُسكت الأصوات التي تطالب بالعدالة البيئية، إن التعاون مع المجتمع المدني هو شرط مسبق لتحقيق انتقال عادل يمنع الكارثة المقبلة.
البعد الإنساني للأزمة
تتجاوز الأزمة الطابع القانوني والسياسي إلى أبعاد إنسانية عميقة، فالنشطاء الذين يواجهون القمع يعيشون في ظل التهديد المستمر بالاعتقال والملاحقة، ويُحرم كثير منهم من وظائفهم أو يُجبرون على مغادرة بلدانهم، وتُشير تقارير أممية إلى أن النساء المدافعات عن البيئة يواجهن مضاعفةً في التهديدات، تشمل العنف الجنسي والتشهير عبر الإنترنت.
وتوضح لولور أن "التهديدات ضد المدافعين عن المناخ لا تُهددهم كأفراد فحسب، بل تُقوّض قدرة البشرية جمعاء على مواجهة أخطر أزمة وجودية عرفها الكوكب".
في عالمٍ يتسارع فيه تغيّر المناخ وتتزايد فيه الكوارث البيئية، يصبح الدفاع عن الكوكب عملاً محفوفًا بالمخاطر، ومع اتساع الفجوة بين خطاب الحكومات وممارساتها، تتآكل الثقة في قدرة النظام الدولي على حماية أولئك الذين يسعون لإنقاذ الأرض.
إن تجريم المدافعين عن المناخ لا يوقف الاحتجاج، بل يؤخر الإنقاذ، وكما تقول المقررة الأممية ماري لولور، "لا ينبغي لأي سلطة أو شركة أو دولة أن تضع الربح فوق الحق في الحياة"، فالمعركة من أجل المناخ هي في جوهرها معركة من أجل كرامة الإنسان وحقه في البقاء.