بين الجوع والنزوح.. الحرب والمناخ يدفعان آلاف اليمنيين إلى الفرار مجدداً
بين الجوع والنزوح.. الحرب والمناخ يدفعان آلاف اليمنيين إلى الفرار مجدداً
في بلد أنهكته الحرب لأكثر من عقد، تتجدد معاناة اليمنيين مع موجات نزوح جديدة تكشف هشاشة الوضع الإنساني، وتسلط الضوء على تراجع الاهتمام الدولي بالأزمة التي تصنفها الأمم المتحدة بأنها من الأسوأ في العالم.
أعلنت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة نزوح قرابة 15 ألف شخص يمني منذ مطلع العام الجاري 2025، في أحدث مؤشرات الانهيار الإنساني الذي يضرب مناطق واسعة من البلاد.
وذكرت المنظمة أن مصفوفة تتبع النزوح التابعة لها سجلت نزوح 2460 أسرة في اليمن منذ الأول من يناير وحتى 11 أكتوبر، أي نحو 14 ألفًا و760 شخصًا اضطروا لترك منازلهم مرة واحدة على الأقل.
بؤر النزوح الدائم
تركزت حالات النزوح الجديدة في محافظات مأرب وتعز والحديدة وصنعاء، حيث تتقاطع خطوط المواجهة العسكرية مع تداعيات الانهيار الاقتصادي والكوارث المناخية.
وتقول المنظمة إن معظم النازحين في اليمن يعيشون في ظروف بالغة الصعوبة، داخل مخيمات تفتقر إلى المياه الصالحة للشرب وخدمات الصحة والتعليم، في حين يعاني كثيرون انعدام الأمن الغذائي ونقص الدواء والمأوى.
ويرى مراقبون أن النزوح لم يعد مجرد نتيجة مباشرة للحرب، بل أصبح جزءًا من واقع يومي يعيشه ملايين اليمنيين العالقين بين نيران الصراع وتغير المناخ، فالفيضانات والعواصف التي تضرب البلاد بصورة متكررة، تتسبب في تدمير منازل ومزارع، وتدفع آلاف الأسر إلى الهجرة الداخلية بحثًا عن الأمان ولقمة العيش.
معاناة بلا نهاية
منذ نحو عشر سنوات، يشهد اليمن حربًا بين القوات الحكومية وجماعة الحوثيين أدت إلى انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة وتفاقم الأزمة الاقتصادية، ووفق تقديرات الأمم المتحدة، يحتاج أكثر من ثلثي السكان إلى نوع من أنواع المساعدات الإنسانية، في حين يعاني أكثر من أربعة ملايين ونصف المليون النزوح المستمر داخل البلاد.
ورغم فترات الهدوء النسبي واتفاقات وقف إطلاق النار الجزئية، فإن الأوضاع الميدانية لا تزال متقلبة، وتشهد مناطق مثل مأرب وتعز اشتباكات متقطعة، في حين يعاني الساحل الغربي من توتر أمني متواصل يعرقل حركة الإغاثة والوصول الإنساني.
يقول أحد موظفي الإغاثة في تعز: "كثير من الأسر هنا نزحت مرتين أو ثلاث مرات، لا يوجد مكان آمن ولا مستقبل واضح، الناس فقط يريدون البقاء على قيد الحياة".
تحذير من الانهيار
حذّر وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، توماس فليتشر، من أن "الوضع الإنساني في اليمن يقترب من نقطة اللاعودة إذا لم يتم دعم عمليات الإغاثة بتمويل عاجل ومستدام".
وأشار إلى أن انخفاض التمويل الدولي يهدد بوقف تدفق المساعدات الضرورية التي يعتمد عليها ملايين اليمنيين للبقاء.
وفي جنيف، أعرب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية عن قلقه البالغ من تزايد النزوح، مشيرًا إلى أن معظم الأسر النازحة لا تمتلك الموارد الكافية لتغطية احتياجاتها الأساسية. وقال المكتب إن المساعدات المقدمة تشمل الغذاء والماء والرعاية الصحية ومستلزمات المأوى، لكنها تبقى أقل بكثير من المطلوب.
حماية المدنيين قبل كل شيء
المنظمات الحقوقية الدولية، ومنها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، شددت على أن استمرار النزوح يعكس فشلًا مزدوجًا؛ سياسيًا في إنهاء الحرب، وإنسانيًا في حماية المدنيين من الجوع والتشريد.
وقالت هذه المنظمات إن الأطراف المتحاربة تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية عن حماية السكان وضمان وصول المساعدات دون عراقيل.
كما طالبت بإطلاق سراح العاملين الإنسانيين المحتجزين لدى جماعة الحوثيين، معتبرة أن هذه الاعتقالات "تعرقل إنقاذ الأرواح وتشكك في نوايا الأطراف الميدانية بشأن الالتزام بالقانون الدولي الإنساني".
وفي وقت سابق من العام الجاري، دعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع موظفي الإغاثة المحتجزين، مؤكداً أن "العمل الإنساني ليس جريمة، بل واجب إنساني وأخلاقي".
تمويل يتراجع واحتياجات تتضاعف
تقدّر الأمم المتحدة أن اليمن بحاجة إلى أكثر من 2.4 مليار دولار لتغطية الاحتياجات الإنسانية لعام 2025، إلا أن ما تم جمعه حتى الآن لا يتجاوز ثلث هذا المبلغ، ويعني ذلك أن ملايين اليمنيين مهددون بفقدان المساعدات الغذائية والرعاية الصحية في الأشهر المقبلة.
وفي هذا السياق، أكدت المنظمة الدولية للهجرة أن النزوح المستمر يزيد الضغط على الخدمات المحدودة في المدن المستضيفة، ويخلق احتكاكات اجتماعية واقتصادية بين السكان الأصليين والنازحين، ما قد ينذر بموجات جديدة من التوترات المحلية.
المناخ يفاقم الجراح
بعيدًا عن الحرب، أصبحت التغيرات المناخية عامل تهديد جديد لليمنيين، فبحسب تقارير أممية، شهدت البلاد خلال العامين الأخيرين زيادة غير مسبوقة في الفيضانات والانهيارات الأرضية والجفاف، ما أدى إلى تدمير آلاف المنازل والمزارع.
وتقول منظمات إنسانية إن هذه الكوارث "تضرب السكان الذين بالكاد تعافوا من النزوح السابق، وتعيدهم إلى دائرة التشرد والفقر من جديد".
يرى محللون أن الحل الجذري للأزمة اليمنية لن يتحقق عبر المساعدات فقط، بل بوقف الحرب وإنعاش الاقتصاد المحلي، فالسلام وحده قادر على وقف النزوح المستمر، وإعادة بناء المناطق المدمرة، وفتح الطريق أمام التنمية.
وفي هذا الإطار، شددت الأمم المتحدة على أن أي تسوية سياسية يجب أن تضع البعد الإنساني في صميمها، مع ضمان مشاركة المجتمعات المحلية والنساء والشباب في جهود إعادة الإعمار.
كما دعا الحقوقيون إلى اعتماد آلية مراقبة دولية لمتابعة تنفيذ التعهدات الإنسانية والتمويلات لضمان وصولها إلى مستحقيها، دون تسييس أو فساد.
أزمة تستدعي ضمير العالم
في النهاية، تظل مأساة اليمن اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام العالم بالقيم الإنسانية، فالبلد الغارق في أزماته لا يحتاج إلى التعاطف فحسب، بل إلى تحرك فعلي يحول دون انزلاقه نحو كارثة أشمل.
اليمنيون، كما تقول إحدى الأمهات النازحات في مأرب، "لا يريدون سوى الأمان والماء والغذاء ومدرسة لأطفالهم"، كلمات بسيطة تختصر معاناة شعب بأكمله ينتظر بصيص أمل في زمنٍ طال فيه الانتظار.