حين تتحول الإغاثة إلى تهمة.. بوركينا فاسو تحتجز عمال المساعدات ومخاوف من أزمة إنسانية
حين تتحول الإغاثة إلى تهمة.. بوركينا فاسو تحتجز عمال المساعدات ومخاوف من أزمة إنسانية
وسط واحدة من أشد الأزمات الإنسانية في غرب إفريقيا، تجد بوركينا فاسو نفسها في عين عاصفة جديدة؛ ليس بسبب الجماعات المسلحة هذه المرة، بل نتيجة حملة حكومية متصاعدة تستهدف المنظمات الإنسانية والعاملين فيها، فبحسب تقرير نشرته منظمة "هيومن رايتس ووتش" في نسختها الإنجليزية، يحتجز المجلس العسكري في البلاد ثمانية من عمال الإغاثة التابعين للمنظمة الدولية لسلامة المنظمات غير الحكومية (INSO)، في خطوة وُصفت بأنها "ضربة قاصمة" لجهود الإغاثة في بلد يحتاج أكثر من ستة ملايين من سكانه إلى مساعدات عاجلة للبقاء.
بدأت القضية في أواخر يوليو 2025 عندما اعتقلت أجهزة الاستخبارات البوركينية في العاصمة واغادوغو المواطن الفرنسي جان كريستوف بيغون، مدير منظمة INSO، وهي منظمة هولندية تُعنى بتعزيز أمن العاملين الإنسانيين حول العالم، وفي أغسطس، توسعت الاعتقالات لتشمل سبعة من موظفيها، بينهم أربعة مواطنين محليين وثلاثة أجانب، وعلى الرغم من مرور أشهر، لم تُحدَّد بعد أي مواعيد للمحاكمة، في حين تتحدث المنظمات الحقوقية عن احتجاز تعسفي واتهامات "واهية" بالتجسس والخيانة.
وزير الأمن محمدو سانا أعلن في السابع من أكتوبر أن السلطات ألقت القبض على المجموعة بتهم تتعلق بجمع معلومات حساسة لمصلحة قوى أجنبية، وهي اتهامات نفتها المنظمة جملة وتفصيلاً، وقالت منظمة INSO في بيانها إن "الخلط بين العمل الإنساني والاستخباراتي يُعد تشويهًا خطيرًا للحقائق ويُعرّض حياة آلاف العاملين في الميدان للخطر".
تضييق الخناق على الفضاء المدني
بحسب "هيومن رايتس ووتش"، فإن هذا الاحتجاز ليس حادثًا منفردًا بل جزء من سياسة أوسع لتضييق الخناق على الفضاء المدني في البلاد، فمنذ استيلاء المجلس العسكري على السلطة في 2022، شهدت بوركينا فاسو سلسلة من الإجراءات القمعية ضد الإعلام والمنظمات غير الحكومية، شملت تعليق تراخيص نحو 11 منظمة دولية، منها "نداء جنيف" و"معهد توني بلير"، وإغلاق جمعيات دينية وتنموية محلية وأجنبية بحجة "انتهاك القوانين الوطنية" أو "جمع بيانات دون إذن".
هذه التطورات تأتي في وقتٍ تتدهور فيه الأوضاع الإنسانية بشكل غير مسبوق، فبحسب الأمم المتحدة، يعيش أكثر من 6.3 مليون شخص في حاجة ماسة إلى المساعدات، بينهم 3.4 مليون طفل، في حين نزح أكثر من مليوني شخص داخليًا منذ اندلاع النزاع المسلح في 2016، وتشير بيانات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) إلى أن نحو 1.1 مليون من هؤلاء يعيشون في مناطق محاصرة من قبل جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” المرتبطة بتنظيم القاعدة، ما يجعل إيصال المساعدات إليهم شبه مستحيل دون دعم المنظمات المتخصصة مثل INSO.
ويُحذر خبراء الأمم المتحدة من أن تعطيل عمل المنظمات الإنسانية سيؤدي إلى "انهيار كارثي" في جهود الإغاثة، خصوصًا في المناطق الشمالية والشرقية التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي الحاد، ففي محافظة سوم وحدها، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 80% من السكان يعتمدون على المساعدات للبقاء على قيد الحياة.
منظمة العفو الدولية أعربت عن قلقها البالغ من تصاعد القيود على العمل المدني في بوركينا فاسو، مؤكدة أن "احتجاز عمال الإغاثة انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي الذي يُحظر استهداف العاملين في المساعدات أو استخدامهم ورقة ضغط سياسية"، وذكّرت بأن المادة 71 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف تُلزم جميع أطراف النزاع بضمان الحماية الكاملة للعمال الإنسانيين وعدم عرقلتهم في أداء مهامهم.
ردود الفعل الدولية
لم تتأخر ردود الفعل الدولية، فقد دعت المفوضية السامية لحقوق الإنسان السلطات البوركينية إلى الإفراج الفوري عن المعتقلين، مشيرة إلى أن احتجازهم يعرقل إيصال المساعدات لملايين المدنيين، كما عبّر الاتحاد الأوروبي عن "قلق عميق" إزاء تدهور بيئة العمل الإنساني في البلاد، معتبرًا أن الإجراءات الأخيرة تُهدد بشلّ التعاون الدولي في مجالات الإغاثة والتنمية.
الولايات المتحدة من جهتها دعت المجلس العسكري إلى احترام التزاماته بموجب القانون الدولي، في حين أصدرت منظمات حقوقية إفريقية بيانات مماثلة حذّرت من أن "تحويل المنظمات الإنسانية إلى أهداف سياسية يُقوّض ثقة المجتمع الدولي ويُفاقم عزلة البلاد".
في المقابل، يبرر المجلس العسكري إجراءاته بالقول إنها ضرورية لـ"حماية الأمن القومي"، متهمًا بعض المنظمات الأجنبية بـ"التجسس وتخريب الاستقرار الداخلي"، ويقول محللون إن المجلس يسعى عبر هذه السياسات إلى إحكام السيطرة على تدفق المعلومات في ظل التدهور الأمني الواسع.
منذ عام 2016، تصاعد العنف في بوركينا فاسو بصورة حادة، فالهجمات التي تشنها جماعات مسلحة تابعة لتنظيمي "القاعدة" و"داعش" أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين والعسكريين، وأجبرت ملايين على الفرار من منازلهم، وردًا على ذلك، أطلق الجيش عمليات واسعة لمكافحة الإرهاب، لكن منظمات حقوق الإنسان وثّقت انتهاكات خطرة ارتكبتها القوات الحكومية، بينها عمليات إعدام جماعي خارج نطاق القانون بحق مدنيين يُشتبه بتعاونهم مع المسلحين.
بيئة خطرة على العمل الإنساني
هذا المشهد المأساوي جعل من بوركينا فاسو واحدة من أخطر البيئات للعمل الإنساني في العالم، فبحسب "هيئة مراقبة الأمن الإنساني" (Aid Worker Security Database)، سُجّل في عام 2024 أكثر من 120 حادثة استهداف لعمال إغاثة، قُتل خلالها ما لا يقل عن 40 شخصًا، وهو أعلى رقم منذ بداية النزاع.
وفي هذا السياق، يرى مراقبون أن اعتقال موظفي INSO يُضاعف المخاطر على المجتمع الإنساني بأكمله، فهذه المنظمة كانت تُقدّم معلومات أمنية دقيقة لمنظمات الإغاثة العاملة في الميدان، ما سمح بتنفيذ عمليات توزيع الغذاء والمساعدات في مناطق يصعب الوصول إليها، يقول أحد العاملين الإنسانيين الذين تحدثوا إلى "هيومن رايتس ووتش": "بدون تحليل دقيق للوضع الأمني، يصبح عملنا أكثر خطورة أو مستحيلًا، إنهم لا يحتجزون ثمانية أشخاص فقط، بل يُخاطرون بحياة الآلاف".
إقليم الساحل بأسره يعيش اليوم على وقع تحولات سياسية وأمنية متسارعة، إذ تقود المجالس العسكرية في بوركينا فاسو ومالي والنيجر توجهًا متقاربًا في التعامل مع المنظمات الدولية، بعد تدهور العلاقات مع القوى الغربية، ولا سيما فرنسا، ويشير مراقبون إلى أن هذه السياسات تُعيد رسم خريطة العمل الإنساني في المنطقة، مع احتمال انسحاب عدد من المنظمات الدولية الكبرى في حال استمرار القيود.
وفي حين تستعد البلاد لاستضافة بعثات تقييم جديدة من الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة، فلا تزال أصوات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين تتصاعد، لكن في ظل غياب مؤسسات قضائية مستقلة وهيمنة الجيش على السلطة، تبقى فرص الحل محدودة، في حين يستمر المدنيون في دفع ثمن صراع لا يبدو له نهاية قريبة.
إن أزمة بوركينا فاسو اليوم تتجاوز مجرد احتجاز عمال إغاثة؛ إنها مرآة لأزمة أعمق يعيشها البلد بين مطرقة التدهور الأمني وسندان السلطوية السياسية، وبينما تُغلق الأبواب أمام المنظمات التي تسعى لإنقاذ الأرواح، تتزايد المخاوف من أن تتحول الأزمة الإنسانية إلى مأساة صامتة، في بلد يقف على حافة الانهيار الكامل.