اختبار العدالة.. خطة فون دير لاين المالية تُعيد طرح سؤال الحق في التنمية داخل أوروبا

اختبار العدالة.. خطة فون دير لاين المالية تُعيد طرح سؤال الحق في التنمية داخل أوروبا
فون دير لاين

تُواجه المفوضية الأوروبية واحدة من أكثر لحظات الاختبار صعوبة في تاريخ الاتحاد الممتد لأكثر من سبعة عقود، فخطة أورسولا فون دير لاين لإصلاح الميزانية الأوروبية، التي وُصفت بأنها "أكبر تعديل منذ ثلاثة عقود"، لا تُثير فقط جدلاً اقتصاديًا حول الإنفاق، بل تفتح نقاشًا عميقًا حول الحق في التنمية والعدالة الإقليمية في القارة التي لطالما تباهت بأنها الأكثر تكافؤًا في العالم.

وفقًا لتقرير نشرته صحيفة "فايننشيال تايمز"، اليوم الاثنين، فإن البحث الذي أجرته زاريه أستريان، أستاذة الاقتصاد بجامعة مونستر، ألقى بظلال كثيفة من الشك على مدى فاعلية سياسة التماسك التي يعتمدها الاتحاد الأوروبي، والمقدّرة بـ392 مليار يورو، لدعم المناطق الأكثر فقرًا، فكل يورو يُنفق عبر تلك السياسة يولّد بالكاد يوروًا واحدًا من النمو الاقتصادي الإضافي، وهو عائدٌ أقل بكثير من المتوقع، ويضع علامات استفهام حول مدى تحقيق العدالة في توزيع التنمية داخل الاتحاد.

سياسة التماسك (Cohesion Policy)، التي تمثل ثلث ميزانية الاتحاد الأوروبي تقريبًا، صُممت منذ تأسيسها لضمان ألا تتحول الفوارق الاقتصادية بين الشمال الصناعي والجنوب الزراعي إلى فواصل اجتماعية وحقوقية، لكنّ البحث الجديد أظهر أن مردود هذه الأموال لم يكن متكافئًا، إذ استفادت مناطق أكثر من غيرها، بينما بقيت مناطق أخرى رهينة للفقر وضعف الاستثمار.

دمج صناديق التنمية

مع اقتراب دورة الميزانية الجديدة التي تبدأ عام 2028، تخطط فون دير لاين لدمج صناديق التنمية الإقليمية مع الإعانات الزراعية في صندوق موحد يبلغ 865 مليار يورو، هذه الخطوة، رغم تبريرها بضرورات الكفاءة المالية، تُهدد -وفق فايننشيال تايمز- بتقليص المبلغ المخصص فعليًا للمناطق الفقيرة إلى النصف، أي نحو 218 مليار يورو فقط.

وهو ما وصفه حاكم منطقة بريشوف في شرق سلوفاكيا، ميلان ماجيرسكي، بأنه "انتهاك لحق المجتمعات الفقيرة في التنمية"، مضيفًا أن 80% من الاستثمارات العامة في منطقته مصدرها صناديق الاتحاد الأوروبي.

ويقول ماجيرسكي في تصريحات نقلتها الصحيفة البريطانية: "من دون سياسة التماسك، لن نتمكن من إصلاح المدارس أو المستشفيات أو حتى الطرق العامة.. سلوفاكيا ببساطة لا تستطيع العمل دون دعم الاتحاد الأوروبي".

ومن جانبها نشرت "الغارديان" تقريرا تزامن من مع مناقشات بروكسل حول الموازنة، أشار إلى أن خطة الدمج المالي المقترحة تهدد بـ"تقويض التقدم الذي أحرزته المناطق الهامشية خلال عقود"، إذ تحولت سياسة التماسك، بالنسبة للملايين من سكان أوروبا الشرقية والجنوبية، إلى وسيلة ملموسة لترجمة "الحق في التنمية" من مبدأ قانوني إلى واقع اقتصادي.

في منطقة مورسيا بجنوب إسبانيا، التي كانت من أفقر المناطق الأوروبية في العام 1986، لعبت صناديق الاتحاد دورًا حاسمًا في إعادة بناء البنية التحتية وتحديث الزراعة وإدارة المياه، واليوم، تُصنف مورسيا من بين أسرع الاقتصادات الإقليمية نموًا في إسبانيا، بفضل هذه السياسة.

قال فرناندو لوبيز ميراس، رئيس المنطقة، في تصريحات نقلتها "الغارديان": "يعود الفضل في ذلك بلا شك إلى العمل الذي بُذل مع الصناديق الأوروبية على مدار هذه السنوات"، لكن في المقابل، تُظهر بيانات "فايننشيال تايمز" أن المناطق التي فقدت إمكانية الوصول إلى هذه الأموال شهدت انهيارًا حادًا في الاستثمارات الخاصة، بما يصل إلى ثلاثة أضعاف حجم الخسائر الحكومية، وهذا يعني أن وقف أو خفض التمويل لا يُؤثر فقط على التنمية الاقتصادية، بل يُقيد فرص الناس في الوصول إلى العمل والخدمات الأساسية، ما يجعله قضية حقوقية بامتياز.

الفعالية الاقتصادية والعدالة

رغم أن بعض الاقتصاديين يرون أن سياسة التماسك حققت هدفها في تقليص فجوة الدخل داخل الاتحاد الأوروبي، فإن الجدل الحالي يعكس تحوّلًا في الأولويات السياسية داخل بروكسل، فبينما تدعو الدول الغنية -مثل ألمانيا وهولندا والدنمارك- إلى توجيه التمويل نحو الدفاع والهجرة والصناعة، تُصر دول الجنوب والشرق على أن الإنصاف المالي لا يقل أهمية عن الأمن العسكري.

قال نائب رئيس المفوضية المسؤول عن التماسك، رافاييل فيتو: "المناطق تعرف احتياجاتها أكثر من أي أحد آخر، ويجب أن يُؤخذ هذا في الاعتبار"، هذه العبارة تُجسّد التوتر القائم بين منطق "الكفاءة المالية" ومنطق "الحق في التنمية"، إذ يخشى العديد من القادة المحليين أن يؤدي خفض التمويل إلى تقويض مبدأ التضامن الذي تأسس عليه الاتحاد الأوروبي ذاته.

وبحسب تحليل نشرته "يورو نيوز"، فإن خطة فون دير لاين الجديدة لا تمثل فقط تحولًا في إدارة الأموال، بل أيضًا في الفلسفة التي تحكم السياسة الأوروبية: من "تمكين الفقراء من اللحاق بالأغنياء" إلى "تحقيق استدامة مالية في ظل التحديات الأمنية والصناعية"، وهو تحول يضع العدالة الإقليمية على المحك.

يقول أستاذ الاقتصاد الإقليمي بجامعة بوليتكنيك دي ميلانو، أوغو فراتيسي، في حديثه إلى "فايننشيال تايمز": "في المتوسط، يبدو أن سياسة التماسك كانت فعّالة، لكن ليس في كل مكان"، هذه الجملة تختصر المعضلة التي تواجه الاتحاد الأوروبي اليوم: كيف يمكن الحفاظ على حق الجميع في التنمية في ظل تفاوت القدرات والفرص؟

وفي ختام تقريرها، حذّرت "فايننشيال تايمز" من أن "المسودة الحالية لميزانية الاتحاد لا تُرضي أحدًا"، فالمزارعون والشركات والمواطنون، كما يقول النائب الأوروبي سيغفريد موريشان، "يراقبون الوضع عن كثب"، إنها ليست مجرد موازنة، بل وثيقة تحدد مستقبل العدالة الأوروبية وحق مواطنيها في التنمية الشاملة.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية