محكمة غزة في إسطنبول.. شهادات تهز الضمير الإنساني وتوثِّق جرائم الإبادة الإسرائيلية
محكمة غزة في إسطنبول.. شهادات تهز الضمير الإنساني وتوثِّق جرائم الإبادة الإسرائيلية
في إسطنبول بتركيا، حيث تنعقد "محكمة غزة" الرمزية، دوّت شهادات موجعة كشفت فصولًا من الإبادة الجماعية والانتهاكات الممنهجة التي ارتكبتها قوات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، وسط صمتٍ دولي وغيابٍ فعلي لتطبيق القانون الدولي الإنساني.
عُقدت الجلسة الأخيرة للمحكمة تحت عنوان "التهم وشهادات الشهود"، في خطوة وُصفت بأنها محاولة رمزية لإنصاف الضحايا ومساءلة مرتكبي الجرائم بعد إخفاق المجتمع الدولي في القيام بدوره.
ومن المقرر أن تصدر المحكمة حكمها الختامي الأحد المقبل بعد الاستماع إلى سلسلة من الشهادات الموثقة، وفق وكالة أنباء الأناضول.
محكمة غزة
تأسست محكمة غزة في العاصمة البريطانية لندن في نوفمبر 2024 بمبادرة من أكاديميين ومثقفين ومدافعين عن حقوق الإنسان وممثلين عن منظمات مدنية من مختلف الدول، كرد فعل على عجز المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، عن حماية المدنيين الفلسطينيين أو محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في قطاع غزة.
الأكاديمي الفلسطيني حيدر عيد، المقيم في جنوب إفريقيا، تحدث للمحكمة عبر الإنترنت، مقدّمًا شهادة إنسانية موجعة عن حجم الفقد والدمار، وقال إنه نجا من التهجير القسري المتكرر وفقد 54 من أفراد أسرته، إلى جانب 39 زميلًا أكاديميًا و280 طالبًا من جامعة الأقصى، وأضاف أن ما يجري في غزة ليس مجرد حرب، بل عملية إبادة ممنهجة تهدف إلى محو الوجود الفلسطيني من وجه الأرض، واصفًا ما يحدث بأنه "شر مطلق".
وأكد أن قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين شنوا حربًا شاملة لتدمير الحياة في غزة وجعلها غير قابلة للعيش، مشيرًا إلى أن جذور هذه الإبادة تعود إلى نكبة عام 1948 حين بدأ المشروع الاستعماري الصهيوني بسياسة الاقتلاع الجماعي.
عجز القانون الدولي
ومن الولايات المتحدة، شاركت المحامية الفلسطينية وأستاذة القانون الدولي في جامعة روتجرز، نورا عريقات، مؤكدة أن ما تشهده غزة يمثل انهيارًا كاملًا للقانون الدولي، إذ فشلت المنظومة القضائية الأممية في فرض أي مساءلة على إسرائيل، وقالت إن الإفلات من العقاب أصبح القاعدة، وإن الدعم السياسي والعسكري الأمريكي منح إسرائيل الحصانة الكاملة من المساءلة.
واستعرضت عريقات سياق الجرائم الإسرائيلية بالعودة إلى جذورها التاريخية، مشيرة إلى أن إسرائيل هجّرت ما يقارب 80 في المئة من الفلسطينيين ودمرت أكثر من 500 قرية بين عامي 1947 و1949، في حملة تطهير عرقي موثقة تاريخيًا، ثم واصلت منذ ذلك الحين سياسات الاستيطان والقتل والتهجير، وأضافت أن استخدام الولايات المتحدة المتكرر لحق النقض في مجلس الأمن أعاق أي قرار لوقف العدوان أو محاسبة مرتكبيه.
ووفق ما ورد في مداولات المحكمة، فإن الحرب الإسرائيلية على غزة المستمرة منذ نحو عامين أسفرت عن استشهاد أكثر من 68 ألفًا و280 فلسطينيًا، وإصابة نحو 170 ألفًا و375 آخرين، فضلًا عن تدمير قرابة 90 في المئة من البنى التحتية المدنية في القطاع، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والمراكز الثقافية والدينية.
شهادات وفظائع
وتوالت الشهادات التي كشفت فظائع ميدانية ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فقد روى رضوان أبو معمر، الناجي من مجزرة خان يونس، تفاصيل مرعبة عن اللحظات التي سبقت قصف المنزل الذي احتمى فيه مع عشرات المدنيين، و قال أبو معمر إنهم مكثوا في المنزل 18 يومًا يظنون أنه آمن، إلى أن استهدفته الطائرات الإسرائيلية في 20 ديسمبر 2023 دون أي تحذير، حيث استشهد 30 شخصًا من أصل 51، معظمهم نساء وأطفال، وأضاف أنه وجد والده وأخاه بين الجثث، فيما توفيت والدته وابنة أخته الصغيرة بعد أن توقف قلبيهما من شدة الرعب.
أما الشاهدة سمر أبو فورة فقد تحدثت عن الانتهاكات على المعابر الحدودية، مشيرة إلى أن الجنود الإسرائيليين يتعمدون إذلال المدنيين وإهانتهم، وقالت أبو فورة إنها شاهدت فتاة فلسطينية تُساق إلى ممر التفتيش في حالة نفسية صعبة، وحين حاولت والدتها الاقتراب منها انهال الجنود عليها بالضرب أمام الجميع، وأكدت أن كثيرين قُتلوا في تلك المعابر بسبب سوء المعاملة والتعذيب.
وفي شهادة أخرى، روى محمود الخطيب مشهدًا صادمًا من رفح، حيث قال إن القوات الإسرائيلية ارتكبت إعدامات جماعية بحق شبان فلسطينيين، وأوضح أن الجنود حفروا حفرة كبيرة في منطقة سكنية، وجمعوا عشرات الشبان ودفعوهم داخلها قبل أن يطلقوا النار عليهم أمام ذويهم، في انتهاك فاضح لكل الأعراف والقوانين الإنسانية.
مسؤولية أخلاقية وقانونية
جلسات المحكمة حملت عناوين متعددة أبرزها "الجرائم"، و"استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية"، و"التواطؤ والنظام الدولي"، و"المقاومة والتضامن"، في محاولة لتأطير الانتهاكات ضمن منظومة قانونية واضحة تستند إلى معاهدات جنيف والقانون الإنساني الدولي.
وقال المنظمون إن المحكمة لا تمتلك سلطة قضائية رسمية، لكنها تسعى إلى إنتاج سجل قانوني وأخلاقي يوثق الجرائم ويضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليته الأخلاقية والقانونية، وأوضحوا أن الهدف ليس فقط إدانة إسرائيل، بل أيضًا توجيه نقد للمؤسسات الدولية التي فشلت في حماية المدنيين أو تطبيق قراراتها.
وتزامن انعقاد المحكمة مع تنظيم سلسلة فعاليات في إسطنبول وعدة مدن أوروبية لتسليط الضوء على معاناة المدنيين الفلسطينيين. وشارك في تلك الفعاليات ناشطون حقوقيون ومحامون وأكاديميون من مختلف الدول، مطالبين بإحالة ملف الإبادة في غزة إلى المحكمة الجنائية الدولية دون تأخير.
في المقابل، تتهم إسرائيل المنظمات الحقوقية بـ"التحيّز" وتقول إن عملياتها العسكرية تستهدف "عناصر مسلحة"، إلا أن التقارير الحقوقية الدولية، من بينها تقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، أكدت أن الغارات الجوية الإسرائيلية استهدفت مناطق مكتظة بالسكان بشكل متعمد، ما يشكل جريمة حرب وفق القانون الدولي.
كما دعت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة إلى وقف الهجمات العشوائية ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، معتبرة أن استخدام الحصار والتجويع والدمار الشامل في غزة يمثل "عقابًا جماعيًا" يرقى إلى الإبادة الجماعية.
خطوة رمزية
وتشير أوساط حقوقية إلى أن "محكمة غزة" تمثل خطوة رمزية لكنها ذات أهمية قانونية وأخلاقية، إذ تعيد إحياء مفهوم العدالة الشعبية في مواجهة عجز الأنظمة الدولية، ويرى مراقبون أن هذه المبادرات تساهم في حفظ الذاكرة القانونية للضحايا وتؤسس لمرحلة جديدة من الضغط الدولي المتصاعد نحو المساءلة.
ومع اقتراب صدور الحكم الرمزي، تتجه الأنظار إلى ما إذا كانت المحكمة ستوصي بإحالة أسماء محددة من القادة الإسرائيليين إلى المحاكم الدولية، أو تدعو إلى فرض عقوبات على الدول التي وفرت الدعم العسكري والسياسي للعدوان. لكن الأكيد أن الشهادات التي سُجلت في إسطنبول ستبقى وثيقة دامغة على مأساة إنسانية غير مسبوقة في القرن الحادي والعشرين.











