معاناة الحرب والوباء.. الأمم المتحدة تحذر من ثاني أكبر تفشٍ للكوليرا بالعالم في اليمن
معاناة الحرب والوباء.. الأمم المتحدة تحذر من ثاني أكبر تفشٍ للكوليرا بالعالم في اليمن
في مشهد يعكس عمق الانهيار الصحي والإنساني في اليمن، كشفت الأمم المتحدة أن البلاد أصبحت ثاني أكبر بؤرة لتفشي وباء الكوليرا عالميًا خلال عام 2025 بعد أفغانستان، وأفاد تقرير منظمة الصحة العالمية صدر الأربعاء بأن اليمن سجل 81,189 حالة اشتباه جديدة بالكوليرا والإسهال المائي الحاد، إضافة إلى 225 حالة وفاة مؤكدة، في فترة لم تتجاوز تسعة أشهر وذلك خلال الفترة من 1 يناير وحتى 28 سبتمبر 2025.
ويأتي هذا الرقم بحسب ما أورده موقع "نافذة اليمن" ليؤكد أن الوباء لم يعد أزمة طارئة، بل تحول إلى واقع دائم يهدد حياة الملايين، ويجسد هشاشة النظام الصحي المنهار بفعل الحرب المستمرة منذ ما يقارب عقدًا من الزمن.
انهيار الخدمات والمرض يزحف من القرى إلى المدن
منذ بداية العام، أبلغت السلطات الصحية المحلية ومكاتب المنظمات الأممية عن ارتفاع حاد في الإصابات في محافظات إب والحديدة وصنعاء وذمار، وهي مناطق تعاني من أشد أزمات المياه والصرف الصحي.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن شهر سبتمبر وحده شهد أكثر من 8,900 إصابة جديدة، ليجعل اليمن ثاني أعلى دولة عالميًا في عدد الإصابات الشهرية بعد أفغانستان.
ويقول خبراء الصحة إن السبب الجوهري لتفشي الكوليرا يتمثل في تدهور البنية التحتية للمياه وغياب شبكات الصرف الصحي، إضافة إلى الاعتماد على مصادر مائية ملوثة يستخدمها ملايين اليمنيين في الشرب والطهي والغسيل.
كما حذرت منظمات الإغاثة الدولية من أن أكثر من 17 مليون شخص لا يحصلون على مياه نظيفة، وأن نحو 15 مليون يفتقرون إلى خدمات الصرف الصحي الأساسية، وهي عوامل كفيلة بتحويل أي تلوث بسيط إلى كارثة وبائية واسعة النطاق.
الحرب تغذي الوباء والوباء يفضح فشل الدولة
لا يمكن فصل تفشي الكوليرا عن واقع الحرب اليمنية التي دمرت مؤسسات الدولة وأضعفت البنى التحتية، فمع استمرار الصراع بين الحكومة المعترف بها دوليًا وجماعة الحوثي، تضررت أكثر من نصف المرافق الصحية في البلاد، بينما تعمل المرافق الباقية بإمكانات محدودة ونقص حاد في الأدوية والمحاليل الوريدية.
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن عرقلة وصول المساعدات الإنسانية من قبل بعض الأطراف المتحاربة، خصوصًا في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، ساهمت في تفاقم الوضع.
وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش إن الحوثيين فرضوا قيودًا على حركة الإمدادات الطبية وأخضعوا بعض المنظمات الإنسانية لإجراءات بيروقراطية معقدة، مما أدى إلى تأخير استجابة فرق الطوارئ في مواجهة موجات الوباء.
كما أدت الهجمات على البنية التحتية المدنية، من محطات المياه إلى شبكات الكهرباء والمستشفيات، إلى إضعاف قدرة البلاد على احتواء الأمراض المعدية، وجعلت الكوليرا تتجاوز نطاق السيطرة في كثير من المناطق.
مخيمات النزوح أرض خصبة للعدوى
تعد مخيمات النازحين أحد أكثر الأماكن تأثرًا بانتشار الكوليرا، فالمخيمات المكتظة في محافظات مأرب وتعز والحديدة تضم مئات الآلاف من الأسر التي تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الصحية.
وأفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بأن المخيمات تعاني من نقص حاد في مياه الشرب النظيفة ومرافق النظافة العامة، ما يجعلها بيئة مثالية لانتقال العدوى.
في بعض المناطق، يضطر السكان إلى استخدام مياه الآبار الملوثة أو تخزين المياه في أوعية مكشوفة، مما يسهل انتقال البكتيريا المسببة للمرض.
وقالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن المخيمات اليمنية أصبحت نقطة التقاء للجوع والمرض والخوف، مؤكدة أن الكوليرا ليست مجرد عدوى مائية بل مأساة إنسانية ممتدة.
أبعاد إنسانية: المرض كوجه آخر للجوع
في اليمن، لا تأتي الكوليرا وحدها. فالجوع وسوء التغذية الحاد يزيدان من هشاشة السكان أمام أي عدوى.
وتشير منظمة الأمم المتحدة للطفولة إلى أن أكثر من 2.2 مليون طفل يعانون من سوء تغذية حاد، ما يجعلهم أكثر عرضة للوفاة عند الإصابة بالكوليرا.
ويقول خبراء الصحة إن العلاقة بين الجوع والوباء دائرية وخطيرة، إذ يؤدي نقص الغذاء إلى ضعف المناعة، فيما تتسبب الكوليرا بفقدان السوائل والعناصر الغذائية الضرورية، ما يفاقم سوء التغذية ويدفع إلى دائرة موت بطيء.
ووفقًا لبيانات برنامج الأغذية العالمي، فإن أكثر من 17 مليون يمني يواجهون انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي، وهو رقم يجعل من كل موجة وباء تهديدًا وجوديًا لشريحة واسعة من المجتمع.
القانون الدولي والحق في الصحة والمياه
يعتبر الحق في الحصول على مياه نظيفة وصرف صحي آمن جزءًا من الحقوق الأساسية التي يكفلها القانون الدولي الإنساني والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لكن تقارير المنظمات الحقوقية تشير إلى أن الأطراف المتحاربة في اليمن تنتهك هذه الحقوق بشكل ممنهج، من خلال تدمير المرافق المدنية أو منع المساعدات من الوصول.
وقالت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان إن حرمان السكان من المياه والرعاية الصحية يمثل انتهاكًا جسيمًا لالتزامات الدولة والأطراف غير الحكومية، داعية إلى تحقيق مستقل وشامل في جميع الأفعال التي ساهمت في تدهور الوضع الصحي.
وطالبت المفوضية بتوفير ممرات إنسانية آمنة لوصول المساعدات، وضمان عمل المنظمات الصحية دون تدخل سياسي أو عسكري.
ردود أممية وتحذيرات من الأسوأ
في مواجهة تصاعد الإصابات، أطلقت منظمة الصحة العالمية في أكتوبر 2025 استراتيجية إقليمية لمكافحة الكوليرا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تهدف إلى تعزيز أنظمة الإنذار المبكر وتوفير اللقاحات الفموية وتحسين شبكات المياه.
وحذر المدير الإقليمي للمنظمة من أن اليمن يقف على حافة موجة وبائية جديدة قد تكون الأسوأ منذ عام 2017 إذا لم تتخذ إجراءات عاجلة، داعيًا إلى تنسيق دولي فوري لإنقاذ الأرواح ومنع انتشار العدوى عبر الحدود.
كما أكدت منظمة الإغاثة الدولية أن استجابتها الميدانية، التي شملت أكثر من 200 مركز صحي في اليمن، لم تكن كافية لتغطية جميع المناطق الموبوءة، مشددة على أن التمويل الإنساني في تراجع حاد رغم اتساع حجم الكارثة.
من وباء 2017 إلى الانفجار الحالي
ليست هذه المرة الأولى التي يواجه فيها اليمن وباء الكوليرا. ففي الفترة ما بين 2016 و2021، شهدت البلاد أكبر تفش للكوليرا في التاريخ الحديث، حيث تجاوز عدد الحالات المبلغ عنها مليونين ونصف المليون حالة، مع أكثر من أربعة آلاف وفاة مؤكدة.
ورغم نجاح حملات التطعيم والاستجابة الدولية في تقليص الإصابات مؤقتًا عام 2022، إلا أن تدهور الأوضاع الاقتصادية واستمرار النزاع أعادا الوباء بقوة خلال العامين الماضيين.
ويرى محللون صحيون أن الكوليرا في اليمن تحولت من وباء دوري إلى ظاهرة مزمنة، تغذيها عوامل الحرب والفقر وتغير المناخ، وتفاقمها سياسات محلية عاجزة عن بناء استجابة صحية فعالة.
يؤكد خبراء الأمم المتحدة أن احتواء الكوليرا في اليمن يتطلب معالجة الأسباب الجذرية للأزمة الإنسانية، وليس مجرد توفير الأدوية والمحاليل.
ويتضمن الحل المستدام إصلاح شبكات المياه الملوثة، ودعم النظام الصحي المحلي، وتوسيع حملات التطعيم، وضمان حياد العمل الإنساني عن الصراع السياسي.
كما شددت المنظمات الأممية على ضرورة تجديد الالتزام الدولي بتمويل خطة الاستجابة الإنسانية لليمن، والتي لا تزال ممولة بأقل من 40 في المئة فقط من احتياجاتها.











