من السجون السرّية إلى النضال المدني.. كيف تواجه اليمن انتهاكات الاختفاء والتعذيب؟

من السجون السرّية إلى النضال المدني.. كيف تواجه اليمن انتهاكات الاختفاء والتعذيب؟
الاعتقال والاختفاء القسري

في بيـن فصول الحرب المستمرة منذ أكثر من عقد في اليمن، ارتفعت أصواتٌ تدعو إلى تشكيل جبهة وطنية تضم مشايخ وأكاديميين وصحفيين وحقوقيين ومنظمات مجتمع مدني، هدفها توحيد الصف في مواجهة ظاهرة الاعتقال التعسفي والتعذيب التي باتت تمثل وجهاً مظلماً من أوجه الأزمة الإنسانية.

وقد طالبت منظمة سام للحقوق والحريات، ومقرها جنيف، بهذا التحرك في بيانٍ نشر الأربعاء، مشيرة إلى أن المعتقلات تحولت إلى أدوات سيطرة على المجتمع وإسكات الأصوات.

بيد أن هذه الدعوة ليست منعزلة، بل تأتي في سياقٍ سبقته عشرات التقارير الحقوقية الدولية والمحلية التي وثّقت ممارسات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب، ولا سيما في مناطق سيطرة الحوثيين وفي المناطق الأخرى التي تشهد ولاءات متداخلة وانقسامات متزايدة.

ضرورة الجبهة الوطنية

يتمحور أحد الأسباب المحفّزة لهذه الدعوة في الغياب شبه الكامل للمساءلة القانونية عن ممارسات الاعتقال والتعذيب، إذ أشار تقرير خبراء الأمم المتحدة إلى أن “أعمال الاعتقال التعسفي والتعذيب وغياب المحاكمات الفعلية تواصل ارتكابها عدة أطراف في النزاع” في اليمن، وهي تنتهك قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان والإنساني. 

إضافة إلى ذلك، يرى الكثير من النشطاء أن التوغل في استخدام السجون السرّية أو غير الرسمية أصبح وسيلة فرض للهيمنة السياسية والاجتماعية، في هذا السياق، شددت منظمة سام على أن أقارب الضحايا يعانون غياب أحبائهم في ظل سكوتٍ مريبٍ يمكّن الجلادين من المضي في ممارساتهم دون رقيب أو محاسبة.

كما أن الأوضاع المشتعلة في اليمن من نزاع مسلح، وانقسام دولي وإقليمي، أدّت إلى خلق بيئة تشريعية وقضائية هشّة، ويعدّ ضعف التعاون مع آليات حقوق الإنسان الدولية من العوامل التي عزّزت الإفلات من العقاب.

التداعيات الإنسانية

من الجانب الإنساني، تؤدي ظاهرة الاعتقال والتعذيب إلى نتائج كارثية لدى الضحايا وعائلاتهم والمجتمع كله، وبحسب تقرير صادر عن هيومن رايتس ووتش بعنوان  فقد كان الصحفيون ومعارضو السلطات في اليمن عرضة لاعتقالات تعسفية، وتجارب تعذيب مروّعة.

التقرير أوضح أن اعتقالات تعسفية تشمل الصحفيين والحقوقيين وغيرهم، وأن بعضاً منهم “أُبلغ بأنهم أعدوا ليكونوا مثل زوجاتهم” في سياق تعذيبهم، من بين الانتهاكات أيضاً استخدام الصعق الكهربائي، والعزل الانفرادي، والتهديد بالقتل أو الإعدام، وغياب الوصول إلى محاكمة عادلة.

أما من جهة الإحصاءات، فقد وثقت شبكة حقوقية يمنية 1893 مختطفاً بين 2018 ويناير 2025 في مراكز احتجاز خاضعة للحوثيين، منهم 117 طفلاً و43 امرأة، و394 تم تعذيبهم حتى الموت أو توفوا لاحقاً بسبب التدهور الصحي. 

وليس الأمر مقتصراً على الأفراد وحدهم؛ فالأسر تكبدت خسائر اجتماعية واقتصادية ضخمة: فقدان المعيل، تفكّك العائلة، فقدان المساكن والموارد، وصدمات نفسية طويلة الأمد، وأشار تقرير خبراء الأمم المتحدة إلى أن الكثير من المتحرّرين من الاعتقال وجدوا أنفسهم بلا عمل أو مصدر دخل، في حين تكبّدت عائلاتهم أعباء مالية كبيرة. 

ردود الأفعال المحلية والدولية

على المستوى الدولي، أعربت منظمات أممية ومحلية عن دعمها للدعوة لتشكيل الجبهة الوطنية، فقد ذُكر في بيان أُصدر أن ما يجري من اعتقالات تعسفية وتجاوزات قضائية يُعد تهديداً خطيراً لإدماج اليمن في أي مصالحة وطنية أو عملية انتقالية صحيحة، وأكد التقرير الأممي لخبراء اليمن أن الأطراف كلها شاركت في الاعتقال التعسفي والتعذيب، وأن هذا الأمر قد يرقى إلى جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.

من الجانب اليمني، ذكرت منظمة سام في بيانها أن الجبهة الوطنية ينبغي أن تضم مختلف الأطراف السياسية والمدنية والأكاديمية والدينية، وأن مهمتها تشمل التوثيق والملاحقة القانونية، وتنظيم فعاليات التوعية، وإطلاق مبادرة وطنية لإدانة هذه الانتهاكات.

حقوقيون محليون اعتبروا أن تشكيل هذه الجبهة يمكن أن يمثّل فرصة نادرة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وإعادة تأهيل المواطنين من أثر الاعتقال والتعذيب، وتأسيس أسس قانونية لليمن ما بعد الحرب.

القانون والآليات المعتمدة

من الناحية القانونية، فإن الاعتقال التعسفي والتعذيب محظوران بموجب الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها اليمن، ومنها اتفاقية مناهضة التعذيب (CAT) ومنظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وكذلك بموجب القانون الإنساني الدولي في حالات النزاع المسلح. 

كما أن محكمة العدالة الدولية أو آليات محلية أو دولية قد تنظر في مسؤولية الأفراد أو الجماعات التي ترتكب هذه الانتهاكات، بيد أن غياب تعاون الجهات المسيطرة أو عدم وجود بيئة قانونية سليمة في البلاد يجعل تنفيذ تلك الإجراءات محدوداً.

في هذا الإطار، يمكن للجبهة الوطنية المقترحة أن تكمّل دور هذه الآليات الدولية من خلال تعزيز المساءلة المحلية وتوثيق الأدلة وتمكين الضحايا من المطالبة بحقوقهم، بما يؤدي إلى كسر دورة الإفلات من العقاب.

منذ اندلاع النزاع اليمني في 2014 بين الحكومة المعترف بها دولياً وميليشيا الحوثي، وامتدادات تدخل إقليمي، ارتبطت مناطق سيطرة الأطراف المختلفة بظاهرة الاعتقالات والتعذيب والاختفاء القسري، وأوضح تقرير مجموعة خبراء الأمم المتحدة لـ 2020 أن ما يزيد على 1600 حالة اعتقال تعسفي و770 اختفاءً قسرياً تم توثيقها بين عامي 2016 و2020.

كما أن الأوضاع القضائية اليمنية -سواء في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة أو تلك التي تخضع للحوثيين- لا توفر محاكمات شفافة أو إنفاذاً فعالاً لحقوق المعتقلين، ما يُعمّق الشعور بالإحباط ويُستثمر من قبل الجماعات المسيطرة بوصفها أداة قمع، وبالتالي، فإن الدعوة لتشكيل جبهة وطنية هي استجابة محلية لتراكم خلل طويل الأمد في المنظومة القضاء والإنسانية في اليمن.

كيف تعمل الجبهة الوطنية؟

بناءً على الدعوة التي أطلقتها منظمة سام، من المفترض أن تضم الجبهة ممثلين عن مشايخ وقادة دينيين وأكاديميين وصحفيين وكتّاباً ومنظمات مجتمع مدني، وتقوم بعدة مهام رئيسية تشمل: توثيق الجرائم والانتهاكات والتعذيب والاختفاء القسري في جميع المناطق، وإطلاق حملات توعية وطنية حول آثار الاعتقال والتعذيب في الأفراد والمجتمع، والمطالبة بإطلاق كافة المعتقلين والمخفيين قسراً دون قيد أو شرط، والضغط على الأطراف اليمنية والدول الداعمة لها لفتح سجونها السرّية وضمان وصول المنظمات الحقوقية، إضافة إلى العمل مع آليات دولية لمتابعة المساءلة وتعويض الضحايا وإصلاح المنظومة القضائية.

إذا لم تنطلق هذه الجبهة أو تُحبط بسبب غياب الدعم أو الأمان أو التمويل فإن النتائج ستكون وخيمة: استمرار الإفلات من العقاب، وتكرار الانتهاكات، وتفاقم الصدمة النفسية والاجتماعية لدى ملايين اليمنيين، وإضعاف أي أمل في مصالحة عادلة أو إعادة بناء مجتمع مدني قوي.

أيضاً، إن عدم المساءلة يعزز ثقافة الإفلات من العقاب ويبعث برسالة إلى الجلادين بأن ما يرتكبونه لن يُعاقبوا عليه، وهو ما يُضعف من إمكانية بناء دولة قانون ومساواة.

إن تشكيل جبهة وطنية لمناهضة الاعتقال والتعذيب في اليمن ليس مجرد اقتراح حقوقي، بل هو خطوة ضرورية لإنقاذ كرامة الإنسان اليمني وإعادة إشاعة العدالة في بلد غارق في النسيان والقهر، فالاعتقال التعسفي والتعذيب لا يمس فقط الضحية مباشرة، بل يمزّق نسيج المجتمع ويُضعف أطر الدولة والمستقبل. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية