أطفال بين الحياة والموت.. مخلفات الحرب تحوّل حقول سوريا إلى فخاخ قاتلة

أطفال بين الحياة والموت.. مخلفات الحرب تحوّل حقول سوريا إلى فخاخ قاتلة
الألغام في سوريا

لا تزال مخلفات الحرب في سوريا تواصل حصد أرواح المدنيين بصمت ثقيل يشبه ظلال الحرب التي لم تغادر البلاد رغم توقف العمليات العسكرية الواسعة، وفي مقدمة الضحايا يبرز الأطفال، الشريحة الأضعف والأكثر تعرضا لخطر الذخائر غير المنفجرة التي تنتشر في محيط القرى والبلدات، خصوصا في المناطق الريفية التي كانت مسرحا لمعارك طويلة، وعلى الرغم من مرور سنوات على انحسار خطوط القتال، فإن هذه الأجسام المعدنية القاتلة لا تزال تلاحق حياة الصغار وتختطف طفولتهم في لحظات، تاركة وراءها خسائر موجعة وإصابات دائمة تقلب مصائر عائلات كاملة.

أرواح صغيرة في مواجهة الموت

تؤكد شهادات السكان المحليين، وفق ما أورده المرصد السوري لحقوق الإنسان الجمعة، أن الحقول والأراضي الزراعية ومحيط المنازل لا تزال مزروعة بذخائر عنقودية وألغام أرضية وصواعق انفجرت نصفها وبقي نصفها الآخر قابلا للاشتعال في أي لحظة، وفي كل مرة يخرج فيها طفل للعب أو لمساعدة أسرته في جلب المياه أو رعي الحيوانات، يصبح عرضة لخطر قد ينهي حياته في لحظة واحدة، وبينما يعيش الناس على أمل انتهاء هذه المأساة، تتكرر الحوادث بشكل يومي، وتستمر الأخبار المفجعة في الصعود من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية.

في ظل هذا النزيف المستمر، يوجه المرصد السوري لحقوق الإنسان نداء متكررا للجهات المعنية بضرورة إطلاق عمليات واسعة لإزالة الألغام والذخائر غير المنفجرة، مع التأكيد على أهمية حملات التوعية، خاصة في المناطق الزراعية والريفية التي يعتمد فيها الأطفال بشكل كبير على العمل في الحقول أو الخروج للعب في الأماكن المكشوفة، ويشدد المرصد على أن غياب الخطط الوقائية وندرة فرق إزالة الألغام يضاعف من حجم الخطر، ما يجعل الأطفال في الصف الأول من الضحايا الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا في بيئة موبوءة ببقايا حرب طويلة.

حصيلة صادمة في أقل من أسبوع

وفق متابعة المرصد السوري، شهدت مناطق سيطرة الحكومة السورية سلسلة من الحوادث الدامية خلال أيام قليلة، مسجلة استشهاد وإصابة ستة عشر طفلا في أقل من أسبوع جراء الألغام والمخلفات الحربية، وتكشف هذه الحوادث حجم المأساة واتساع رقعتها، إذ تتكرر في أكثر من محافظة وفي ظروف متشابهة، ما يدل على أن الخطر منتشر بشكل واسع ويحتاج إلى تدخل سريع.

في قرية حصريا بريف حماة الشمالي، انفجرت قنبلة عنقودية كانت مطمورة في الأرض منذ سنوات، أسفر الانفجار عن استشهاد طفل وإصابة آخر بجروح خطيرة. لم يكن الطفلان يدركان أن جسما معدنيا صغيرا قد يتحول إلى قنبلة قاتلة، المشهد ترك القرية في حالة صدمة، بينما حاول الأهالي إنقاذ الطفل المصاب وإيصال رسالة بأن المنطقة بحاجة إلى مسح عاجل.

بعد يوم واحد فقط، شهدت مدينة اللطامنة انفجارا جديدا لقنبلة عنقودية من مخلفات الحرب، ورغم أن الإصابات اقتصرت على طفلين اثنين وأوصفت بأنها طفيفة، فإن تكرار الحوادث في منطقة واحدة خلال يومين يثير الرعب بين الأهالي، ويؤكد أن الأرض لا تزال تحمل الكثير من المفاجآت القاتلة.

كانت الحادثة الأكثر فداحة ذلك اليوم الذي اهتزت فيه منطقة شمال بلدة قمحانة بريف حماة على وقع انفجار لغم أرضي، كان ثمانية أطفال يعملون أو يلعبون بالقرب من أرض زراعية حين دوى صوت الانفجار، استشهد أربعة منهم على الفور، فيما أصيب أربعة آخرون بجروح متفاوتة، وتتراوح أعمار الأطفال بين سبعة وسبعة عشر عاما، وينحدرون من قرى العوجة ورسم البغل وأبو درة، وهي قرى تعتبر الفقر أحد سماتها الأساسية، ما يدفع الأطفال للمساعدة في الأعمال الزراعية منذ سنوات مبكرة، ترك الانفجار جرحا غائرا في قلوب أهالي المنطقة، الذين ودعوا أربعة أطفال في يوم واحد.

في مدينة دير الزور، كان ثلاثة أطفال يلعبون في أحد شوارع حي الحويقة عندما عثروا على جسم صغير ظنوه أداة حديدية عادية، وما إن بدأ أحدهم بضربه حتى انفجر الجسم، الذي تبين أنه قنبلة عنقودية من مخلفات الحرب، وأصيب الأطفال الثلاثة بشظايا متفرقة، وتم إسعافهم إلى المستشفى وسط حالة من الخوف الشديد التي عمت الأحياء الشرقية للمدينة.

وفي ريف حماة الشمالي عاد المشهد المؤلم مرة أخرى عندما استشهد طفل يبلغ من العمر اثني عشر عاما نتيجة انفجار صاعق من مخلفات الحرب في بلدة كفرنبودة، كان الطفل بالقرب من حقل زراعي حين انفجر الجسم، ولم يتمكن أحد من إنقاذه، ومع كل حادث جديد، تتسع دائرة الألم، ويتجدد خوف الأهالي من السماح للأطفال بالاقتراب من الأراضي المفتوحة.

تبعات إنسانية ومخاوف متفاقمة

لا تقتصر آثار هذه الحوادث على الأرواح التي تُفقد فورا، بل تمتد إلى الإصابات التي تترك إعاقات دائمة، ما يضيف أعباء جديدة على عائلات تعاني أصلا من ظروف اقتصادية صعبة، والأطفال المصابون غالبا ما يفقدون أطرافا أو يعانون من إصابات في الوجه والعينين، ما يؤثر على مستقبلهم الدراسي والمهني والاجتماعي، وتؤكد منظمات محلية أن الألغام خلفت آلاف المصابين خلال السنوات الماضية، معظمهم من القاصرين.

حاجة ملحة لبرامج توعية ومسح شامل

يرى ناشطون محليون أن حملات التوعية تكاد تكون غائبة تماما في بعض القرى، وويرى الأهالي أن الأطفال بحاجة لمعرفة كيفية التعرف على الأجسام المشبوهة وعدم الاقتراب منها، بينما تحتاج المدارس إلى برامج توعية منظمة، ومن دون هذه البرامج سيبقى اللعب في الحقول أو الطرقات المغبرة محفوفا بالموت.

كما تشدد جهات حقوقية على ضرورة تدخل دولي لدعم عمليات إزالة الألغام، إذ يحتاج الأمر إلى معدات خاصة وخبرات تقنية غير متوافرة لدى الفرق المحلية، وتُعد الذخائر العنقودية من أصعب الذخائر التي يمكن العثور عليها وإزالتها لأنها تتناثر في مناطق واسعة ولا ينفجر كثير منها عند سقوطه.

شهدت سوريا خلال سنوات الحرب استخداما واسعا للذخائر العنقودية والألغام بمختلف أنواعها، وتقول منظمات دولية إن آلاف الأجسام المتفجرة لا تزال مطمورة في الأراضي الزراعية ومحيط المدن والقرى، وتحتل سوريا اليوم موقعا متقدما بين الدول الأكثر تلوثا بالمخلفات الحربية في العالم.

 كما تشير تقارير أممية إلى أن ملايين المدنيين يعيشون في مناطق ملوثة، وأن الأطفال يشكلون نسبة كبيرة من الضحايا بسبب فضولهم الطبيعي وعدم إدراكهم لخطورة هذه الأجسام، ورغم وجود بعض برامج التطهير، فإن حجم التلوث يفوق قدرات الفرق المحلية، ما يجعل الحاجة إلى دعم دولي وتنسيق حكومي أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية