بين التنظيم واحتياجات الاقتصاد.. إصلاحات الهجرة البريطانية تهدد توازن سوق العمل
بين التنظيم واحتياجات الاقتصاد.. إصلاحات الهجرة البريطانية تهدد توازن سوق العمل
في خطوة توصف بأنها واحدة من أعمق عمليات إعادة الهيكلة في نظام الهجرة البريطاني منذ عقود، تمضي الحكومة في طرح مقترحات جديدة تشدد من شروط الإقامة الدائمة وتربطها بمعايير تتعلق بالسلوك والاندماج والمساهمة الاقتصادية بدلا من معيار سنوات الإقامة الذي ظل أساسا ثابتا لسنوات طويلة.
ووفق هذا التوجه الجديد، تتبدل ملامح الطريق الذي يسلكه مئات الآلاف من المهاجرين نحو الاستقرار القانوني لتتحول العملية إلى مسار طويل وأكثر تعقيدا، لكنه بحسب الحكومة أكثر انسجاما مع التحديات الراهنة التي تواجه بريطانيا.
وأفادت صحيفة "الشرق"، في تقرير لها اليوم الثلاثاء، أن أرقاما أولية من وزارة الداخلية البريطانية أشارت إلى أن نحو مليون وسبعمئة وخمسة وستين ألف شخص يتوقع حصولهم على الإقامة الدائمة بين عامي 2025 و2030، وهو رقم يعكس حجم التأثير الذي قد تتركه السياسات الجديدة على المجتمع وسوق العمل.
وفي الوقت الذي يبدي فيه قطاع الأعمال مخاوفه من انعكاس هذه التغييرات على قدرته في استقطاب الكفاءات العالمية، يؤكد مسؤولون حكوميون أن هذه الإجراءات جاءت ردا على ضغط شعبي متصاعد وقلق من أن تسهم القوانين الحالية في مزيد من الانقسام المجتمعي.
تحولات في مسارات الإقامة
جوهر الخطة الجديدة يقوم على إعادة تعريف معنى الاستقرار القانوني في البلاد. فبدلا من خمس سنوات كفترة أساسية للتأهل للإقامة الدائمة، قد تمتد الفترة إلى عشر سنوات، أو حتى ثلاثين عاما لبعض الفئات، بينما يحصل أصحاب الدخل المرتفع أو ذوو المساهمات الاقتصادية المميزة على مسار أسرع قد يختصر المدة إلى ثلاث سنوات فقط.
هذه القفزات الزمنية الحادة تعكس تغيرا في الفلسفة الحكومية، إذ يتحول النموذج إلى نظام انتقائي صريح يعطي الأفضلية لمن يحقق أعلى قدر من الاندماج والمساهمة في الحياة الاقتصادية، وفي المقابل، قد يجد ذوو الدخل المحدود أو من يعملون في قطاعات خدمية أساسية أنفسهم عالقين في مسارات ممتدة تفتقر إلى الاستقرار.
من منظور الحكومة، الهدف هو استعادة التحكم بملف الهجرة وضمان أن تكون الاستفادة من النظام العام والخدمات منسجمة مع طاقة الدولة، وقد أكد مسؤول حكومي أن أكثر من أربعمئة ألف شخص تقدموا بطلبات لجوء خلال الأربع سنوات الماضية، وأن أعدادا كبيرة ما تزال تعتمد على المساعدات الحكومية رغم مرور سنوات على وصولها، وهو ما ينعكس على ثقة المجتمع البريطاني في المنظومة برمتها.
مخاوف من انقسام اجتماعي
في خضم الجدل الدائر حول تأثير السياسات الجديدة، يبرز سؤال محوري يتعلق بصورة بريطانيا كوجهة مرغوبة للمهاجرين، فهل تتحول البلاد إلى بيئة طاردة للكفاءات، فيما تنفي الحكومة ذلك مؤكدة أنها لا تغلق الأبواب أمام من يحتاج إلى حماية فعلية، لكنها تحذر من أن استمرار الوضع الحالي قد يقود إلى انقسام مجتمعي أعمق ويفرض مخاطر إضافية.
أما التعديلات نفسها، التي أعلنت وزيرة الداخلية شبانا محمود عن تفاصيلها، فستُطرح على البريطانيين في فبراير 2026 لأخذ آرائهم قبل أن تبدأ عملية التنفيذ في أبريل من العام نفسه.
وتأتي هذه الخطوة وسط منافسة سياسية مشتعلة بعدما أصبحت قضية الهجرة جزءا أساسيا من برامج الأحزاب واهتمام الناخبين.
وتعكس تحذيرات الخبراء صورة مختلفة. فمادلين سامبشر، مديرة مرصد الهجرة في جامعة أكسفورد، ترى أن المقترحات تشكل تحولا جذريا قد يؤدي إلى فجوة واسعة بين الفئات المختلفة من المهاجرين، فأصحاب الدخل المرتفع مثلا سيجدون طريقا أسرع بكثير نحو الإقامة الدائمة، بينما سيُثقل كاهل ذوي الدخل المنخفض بمسارات طويلة قد تمتد لأكثر من خمسة عشر عاما.
وتشير سامبشر إلى مخاطر اجتماعية واقتصادية تهدد الأسر التي تمتلك أوضاعا قانونية مختلطة، خاصة إذا جرى تشديد الوصول إلى المساعدات الحكومية والخدمات، ما قد يزيد من احتمالات الفقر لدى الفئات الأكثر هشاشة، وتسلط الضوء أيضا على العاملين في قطاع الرعاية الصحية الذين يشكلون إحدى أكثر المجموعات تضررا، إذ ستبقيهم الإجراءات الجديدة في حالة قلق قانوني ومهني لفترة طويلة.
تحديات تواجه سوق العمل
قطاع الأعمال بدوره يرفع صوته محذرا من عجز متراكم في المهارات، فبحسب غرفة التجارة البريطانية، تواجه ثلاثة أرباع الشركات صعوبة في العثور على موظفين مناسبين، وترتفع النسبة في قطاع البناء إلى خمسة وثمانين في المئة.
ويرى خبراء الاقتصاد أن نظام الهجرة الجديد قد يحد من قدرة الشركات على سد الفجوات الوظيفية، في وقت لا يزال فيه سوق العمل يعاني من نقص واضح، خصوصا في مجالات مثل الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية والضيافة والتكنولوجيا.
بيانات مكتب الإحصاء الوطني تشير إلى وجود ثمانمئة وخمسين ألف وظيفة شاغرة، بينها أكثر من مئة وأربعين ألف وظيفة في قطاع الرعاية الصحية وحده، كما تعتمد قطاعات واسعة على العمالة المهاجرة التي تمثل حوالي خمس القوى العاملة في البلاد. هذه الأرقام تضع تحديات إضافية أمام أي نظام هجرة مشدد قد يبطئ تدفق العاملين المؤهلين.
تعيد الخطة المقترحة تنظيم قواعد لم الشمل التي لن تكون متاحة تلقائيا كما في السابق، سيُطلب من اللاجئ مثلا أن يكون ضمن مسار عمل أو دراسة قبل استقدام أسرته، كما لن يحصل الأزواج والأتباع تلقائيا على فرص الإقامة الدائمة، ويضاف إلى ذلك تحديد عمر معين للأطفال ليكون لديهم مسار مستقل عن ذويهم عند التقدم للإقامة الدائمة.
وفي المقابل، تستثني الحكومة الحالات الإنسانية الحساسة مثل ضحايا العنف أو من لديهم ظروف صحية خاصة، وكذلك المرتبطين بمواطنين بريطانيين.
ترتيبات انتقالية قبل التطبيق
تهدف الحكومة إلى تفادي إرباك المهاجرين الذين هم بالفعل على طريق الإقامة الدائمة، لذلك وضعت ترتيبات انتقالية تسمح لهم باستكمال المسار وفق الأنظمة القائمة. وسيجري خلال العام المقبل تقييم آراء الجمهور قبل اعتماد التعديلات النهائية.
حتى الآن، لا توجد تقديرات رسمية لعدد الأشخاص الذين قد يتأثرون سلبا بفقدان أهلية الإقامة الدائمة، لكن تقديرات بحثية تشير إلى أن التشديد قد يطال مئات الآلاف على المدى المتوسط.
يتزامن الجدل حول إصلاحات الهجرة في بريطانيا مع تحولات عالمية أوسع تشمل ارتفاع أعداد المهاجرين وتزايد الضغوط الاقتصادية والأمنية في عدة دول، وتشير تقارير دولية إلى أن دولا عديدة تتجه لتشديد أنظمة الهجرة، خصوصا في أوروبا وأمريكا الشمالية، ضمن محاولات لضبط الحدود وضمان الاستقرار الاجتماعي.
في المقابل، يحذر خبراء من أن السياسات المتشددة قد تؤثر على القدرة التنافسية في أسواق العمل التي تعاني من الشيخوخة ونقص المهارات، وعلى الرغم من أن بريطانيا اعتمدت نظام النقاط بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي لتسهيل استقطاب الكفاءات، فإن التعديلات الجديدة تمثل مرحلة أكثر صرامة تركز على الرفاه الاقتصادي للمهاجر والسلوك والاندماج كمؤشرات أساسية لمنح الإقامة الدائمة.










