تقرير حقوقي: فيضانات غزة مأساة كان يمكن منعها وسياسات الحصار تحصد الأرواح
تقرير حقوقي: فيضانات غزة مأساة كان يمكن منعها وسياسات الحصار تحصد الأرواح
لم تكن الفيضانات التي اجتاحت قطاع غزة خلال الأيام الأخيرة مجرد نتيجة لأمطار غزيرة أو منخفضات جوية عابرة، بل تحولت إلى مأساة إنسانية واسعة النطاق بفعل واقع قاسٍ صنعته سنوات من الحصار والتدمير ومنع إدخال مستلزمات الحياة الأساسية، هذا ما أكدته منظمة العفو الدولية، التي وصفت ما جرى بأنه كارثة كان يمكن تفاديها بالكامل، لولا القيود الإسرائيلية المستمرة على إدخال مواد الإيواء وإصلاح البنية التحتية الحيوية في القطاع.
ذكرت منظمة العفو في تقرير لها اليوم الأربعاء أن الأمطار أغرقت آلاف الخيام والملاجئ المؤقتة التي تؤوي نازحين فقدوا منازلهم خلال العدوان، وأدت إلى انهيار مبان متضررة أصلا، في وقت يعيش فيه سكان غزة حالة إنهاك قصوى بعد أكثر من عامين من القصف والتهجير القسري، وبدلا من أن تكون العاصفة اختبارا لقدرة البنية التحتية على الصمود، كشفت هشاشة واقع إنساني حرم من أبسط مقومات الحماية، حيث تحولت الخيام إلى مصائد للمياه والبرد، والمباني المتصدعة إلى قبور جماعية.
قيود مستمرة رغم القرارات الدولية
بعد أكثر من شهرين على وقف إطلاق النار، ورغم صدور أوامر ملزمة عن محكمة العدل الدولية وفتوى استشارية في أكتوبر 2025 تؤكد التزامات إسرائيل بصفتها قوة احتلال، ما زالت القيود مفروضة على دخول الإمدادات الأساسية إلى قطاع غزة، وتشير منظمة العفو الدولية إلى أن السماح بدخول كميات ضئيلة من المساعدات لا يرقى إلى مستوى الاحتياجات الهائلة لسكان يعيشون وسط دمار شبه كامل وحرمان شامل من الخدمات.
وتعتبر المنظمة أن هذا النهج يعكس سياسة متعمدة لإخضاع الفلسطينيين لظروف معيشية يراد بها تدميرهم المادي، وهو ما تحظره اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، خاصة في ظل منع مواد الإيواء والإصلاح اللازمة لحماية المدنيين من أخطار يمكن التنبؤ بها، مثل الفيضانات والعواصف الشتوية.
شهادات من قلب الفاجعة
محمد نصار، أب فقد طفليه لينا البالغة من العمر 18 عاما وغازي 15 عاما، يروي تفاصيل اللحظة التي انهار فيها المبنى المتضرر الذي كانوا يقيمون في طابقه الأرضي بحي الشيخ رضوان في 12 ديسمبر، يقول إنه ظن أن وجود سقف صلب سيمنح عائلته الأمان بعد شهور من العيش في الخيام، لكنه عاد ليجد زوجته تصرخ بعد أن سحقت الطوابق العلوية طفليه تحت الأنقاض.
يضيف بصوت مثقل بالفقد أن العائلة نجت من القصف لتفقد أبناءها بفعل العاصفة، مؤكدا أن ما حدث حطم أحلام طفلين كانا يستعدان لمستقبل بسيط في حياة طبيعية لم تتحقق.
وفي حي الرمال بمدينة غزة، فقد شادي حنونة شقيقيه خليل 24 عاما وخضر 18 عاما، عندما انهار منزل متضرر فوق خيمتهما فجر 12 ديسمبر، ويصف شادي كيف حاولت العائلة تأمين الخيام قدر الإمكان، لكن العاصفة كشفت استحالة حماية خيمة من انهيار مبانٍ محيطة بها، مؤكدا أن الخوف الأكبر لم يكن من المطر وحده بل من العجز الكامل عن إيجاد مكان آمن.
مبانٍ مدمرة وخيام غارقة
تفيد منظمة العفو الدولية بأن ما لا يقل عن 81 في المئة من المباني في قطاع غزة تعرضت للتدمير أو الضرر، بينما صنفت نحو 58 في المئة من مساحة القطاع كمناطق محظورة، وفي هذا الواقع، يعيش غالبية السكان في خيام مهترئة أو ملاجئ متضررة، وسط مياه صرف صحي وفيضانات، دون تدفئة أو رعاية طبية كافية.
وقد زارت المنظمة ثلاثة مواقع لمبان انهارت بعد العواصف الأخيرة في مخيم جباليا وحي الرمال وحي الشيخ رضوان، وتحدثت إلى عائلات فقدت أحباءها تحت الأنقاض، وأسفرت هذه الانهيارات عن وفاة 9 أشخاص في يوم واحد، إضافة إلى وفاة أخرى في مخيم الشاطئ، وفق وزارة الصحة في غزة.
عرقلة للمساعدات واستغلال تجار
تشير بيانات منظمات إنسانية عاملة في قطاع غزة إلى منع دخول مساعدات بقيمة تقارب 50 مليون دولار منذ وقف إطلاق النار، ورفض 124 طلبا لإدخال إمدادات حيوية، كما أكدت الأونروا امتلاكها مواد غذائية تكفي لإطعام 1.1 مليون شخص، ومواد إيواء لنحو 1.3 مليون شخص، لكنها لا تزال عالقة خارج القطاع بفعل الرفض الإسرائيلي.
وتحذّر المنظمة من أن استمرار منع إدخال المعدات اللازمة لإصلاح شبكات المياه والصرف الصحي ينذر بكارثة أكبر مع استمرار موسم الأمطار، ويضاعف خطر انتشار الأمراض والأوبئة في بيئة مكتظة تفتقر لأبسط شروط الصحة العامة.
أدى النقص الحاد في مواد الإيواء إلى استغلال الأزمة من قبل عدد محدود من التجار المسموح لهم بإدخال البضائع، حيث ارتفعت أسعار الخيام والمواد الأساسية بشكل يفوق قدرة العائلات المنهكة أصلا، ويجد النازحون أنفسهم عالقين بين برد الشتاء وغلاء الاحتياجات، دون بدائل حقيقية أو دعم كافٍ.
تحذير دولي من كارثة متكررة
تؤكد منظمة العفو الدولية أن ما جرى ليس حادثا استثنائيا، بل نتيجة متوقعة لسياسات قائمة، محذرة من أن عدم تغيير هذا الواقع سيؤدي إلى كوارث جديدة مع كل عاصفة أو موجة برد، وترى المنظمة أن تقاعس إسرائيل عن رفع القيود وعدم امتثالها للأوامر الدولية يعكس استمرار القصد في فرض ظروف معيشية مميتة على السكان.
تختتم المنظمة تحذيراتها بدعوة صريحة إلى المجتمع الدولي للتحرك العاجل من أجل الضغط على إسرائيل لرفع الحصار وإلغاء جميع القيود على دخول الإمدادات المنقذة للحياة، بما في ذلك مواد الإيواء والأغذية والمساعدات الطبية، وتشدد على أن حماية المدنيين من أخطار يمكن تفاديها ليست مسألة طقس أو طوارئ طبيعية، بل اختباراً حقيقياً لالتزام العالم بالقانون الدولي وكرامة الإنسان.
يعاني قطاع غزة منذ سنوات من حصار مشدد أدى إلى تدهور واسع في البنية التحتية والخدمات الأساسية، وتفاقم هذا الوضع بشكل غير مسبوق بعد العدوان الأخير الذي تسبب في دمار شامل ونزوح جماعي، ورغم صدور قرارات دولية تؤكد ضرورة ضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، لا تزال القيود المفروضة تعوق جهود الإغاثة وإعادة الإعمار، ومع دخول فصل الشتاء، تتحول الأزمات المتراكمة إلى تهديد مباشر لحياة المدنيين، خاصة الأطفال وكبار السن، في ظل غياب الإيواء الآمن والرعاية الصحية الكافية.











