النزوح القسري.. حين يصير تغيّر المناخ عدواً مزدوجاً للفقراء
النزوح القسري.. حين يصير تغيّر المناخ عدواً مزدوجاً للفقراء
رغم أنّ الجفاف غالبًا ما يُستَحضَر في أذهان الناس كأبرز تجلّيات تغيّر المناخ، إلا أنّ الحقيقة أكثر تعقيدًا وقسوة، فالعالم اليوم يواجه ما يُسمّيه الخبراء تطرّفًا مناخيًا مزدوجًا؛ حيث تضرب بعض المناطق موجات جفاف غير مسبوقة تُهلك المحاصيل وتدفع المزارعين والريفيين الفقراء نحو النزوح، بينما تغمر السيول والأمطار الغزيرة مناطق أخرى وأحيانًا نفس المناطق فتدمّر البنى التحتية والمنازل الهشة.
وشرّدت فيضانات باكستان الكارثية عام 2022 مثلًا أكثر من 8 ملايين شخص، بينما يواجه القرن الإفريقي أطول موجة جفاف منذ عقود، مهدّدًا ملايين الأرواح، وهذا التناقض المأساوي يعكس كيف تحوّل تغيّر المناخ من قضية بيئية بحتة إلى أزمة إنسانية مركّبة؛ حيث يقسو على الفقراء والأكثر هشاشةً في دوّامة لا تترك لهم متّسعًا لالتقاط الأنفاس، وتجعل من النزوح القسري خيارًا وحيدًا للبقاء على قيد الحياة.
في قرى جافةٍ نائية لا تصلها الكاميرات ولا يحضرها الصحفيون، يحدث اليوم أحد أخطر أشكال النزوح الإنساني، ملايين البشر يغادرون أراضيهم الطينية المتشققة، مدفوعين ليس برصاص الحرب أو بطش الحكومات، بل بتهديد أكثر هدوءًا: الجفاف. أزمة لا تُصدر دوِيًّا، لكن صداها يُدوّي في حياة الفقراء والنساء والأطفال أولًا.
تغير المناخ لا يصنع الكوارث فقط؛ بل يُعيد رسم الخرائط البشرية. الجفاف، بصفته أخطر مظاهر تغيّر المناخ، صار سببًا مباشرًا وغير مرئيّ في آن، لإجبار المجتمعات على النزوح. خلف كل عائلة نازحة قصة جفاف بئر، أو موت محاصيل، أو نفوق قطيع كان يُطعم الأبناء.
إحصاءات تكشف عمق الكارثة
وفق تقرير المنظمة الدولية للهجرة (IOM)، نزح أكثر من 23.7 مليون شخص في 2023 نتيجة كوارث متصلة بالمناخ، معظمهم من إفريقيا وآسيا. التقرير يحذر من أن هذه الأرقام لا تشمل النازحين غير الموثقين الذين يتركون قراهم دون تسجيل رسمي.
البنك الدولي يتوقع أن يدفع تغيّر المناخ بحلول عام 2050 نحو 216 مليون شخص إلى النزوح الداخلي، أما لجنة المناخ الحكومية الدولية (IPCC) فتحذر من أن المناطق القاحلة ستتوسع لتغطي نحو 20% إضافية من اليابسة بحلول منتصف القرن.
لكن المأساة لا تقف عند الأرقام؛ فهؤلاء النازحون غالبًا لا يُعترف بهم كلاجئين بموجب اتفاقية 1951، مما يعني حرمانهم من الحماية الدولية.
موت الأرض وميلاد النزوح
في القرن الإفريقي –الصومال، إثيوبيا، كينيا– تسببت خمسة مواسم أمطار فاشلة في تدمير الحياة الريفية، ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، نحو 36 مليون شخص يعانون من أزمة غذاء حادة، و1.5 مليون نازح في الصومال وحدها منذ 2021.
قرى بأكملها خلت من سكانها الذين استقروا حول ضواحي المدن ومخيمات النزوح. النساء والأطفال يشكلون غالبية النازحين، وغالبًا ما يتعرضون للاستغلال والفقر المدقع وسوء التغذية.
سوريا بلد أنهكته الحرب، لكن الجفاف يضيف نزوحًا آخر أكثر هدوءًا، حيث انخفضت مستويات نهر الفرات إلى أدنى مستوى منذ نصف قرن، فتضررت سبل عيش أكثر من 5 ملايين شخص يعتمدون على الزراعة في شمال شرق البلاد.
في العراق، تتراجع مستويات نهري دجلة والفرات سنويًا؛ ما دفع آلاف الأسر الزراعية لترك أراضيها والهجرة نحو المدن. الجفاف هنا يتقاطع مع فساد الإدارة المائية وضعف البنية التحتية، ليحوّل الصراع على المياه إلى تهديد أمني واجتماعي.
الجفاف لا يرحم
عام 2025 شهدت كندا أحد أسوأ مواسم حرائق الغابات منذ 30 عامًا بسبب موجات جفاف طويلة، في مقاطعة ساسكاتشوان، أُجبر أكثر من 1100 شخص على النزوح، معظمهم من المجتمعات الأصلية التي ترتبط جذورها الروحية والاقتصادية بالغابات والأراضي.
تقرير لمنظمة العفو الدولية أشار إلى أن هذه المجتمعات تعاني من تهديد مزدوج: خسارة الموارد الطبيعية بسبب الجفاف، ونقص الدعم الحكومي الكافي لإعادة التوطين أو التعويض.
ولا يُعترف بالنازحين بسبب الجفاف رسميًا كـ«لاجئين» في القانون الدولي. اتفاقية اللاجئين لعام 1951 تركز فقط على من يهربون بسبب الاضطهاد أو النزاعات.
مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) تؤكد أن هذه الفجوة القانونية تترك ملايين النازحين بسبب المناخ في فراغٍ قانوني، بدون حق اللجوء عبر الحدود أو الحصول على دعم دولي طويل الأمد.
إرث التصحر والهجرات
الهجرة بسبب الجفاف ليست جديدة؛ موجات نزوح حدثت في القرن الماضي من الساحل الإفريقي والهند وأمريكا الجنوبية بسبب التصحر، لكن الجديد اليوم أن وتيرة الجفاف وتسارُع تغيّر المناخ يجعلان الأزمة دائمة وليست موسمية.
في الماضي، كان المطر يعود، فتعود معه الحياة، واليوم، مع ازدياد درجات الحرارة وذوبان الجليد وتراجع الأمطار الموسمية، يبدو المستقبل قاتمًا.
في قرية سامجونج النيبالية، اضطر السكان إلى هجر بيوتهم والصعود إلى مناطق أعلى بعدما فقدت ينابيعهم مياهها بسبب موجات جفاف طويلة، لتأتي بعدها أمطار مفاجئة تسبّبت في انهيارات طينية مدمّرة، هذه الهجرة الداخلية لم تكن مجرّد تحرّك جغرافي، بل نزوح قسري ثقافي واجتماعي؛ إذ ترك السكان وراءهم أراضي الأجداد وذكريات الأجيال السابقة، وأصبحت هذه القرية مثالًا حيًّا على كيف يحاصر تغيّر المناخ المجتمعات الضعيفة بين شحّ المياه وفجائية الفيضانات، ليحوّل حتى أبسط أشكال الاستقرار الإنساني إلى معركة يومية للبقاء.
التقارير الحقوقية أصوات تُحذّر
تقرير أوكسفام لعام 2024 بيّن أن أقل من 2% من التمويل المناخي الدولي يذهب لدعم المجتمعات للتكيّف مع آثار الجفاف. في حين تُنفق المليارات على بناء سدود أو مشروعات ضخمة، تُترك القرى الصغيرة وحدها تواجه العطش.
أما تقرير البنك الدولي الأخير، فيحذر من أن النزوح بسبب الجفاف يزيد من التوترات العرقية والطائفية، خاصة في المناطق الهشة سياسيًا.
أزمة الجفاف لم تعد أزمة بيئية فقط؛ إنها أزمة إنسانية تمس الحق في الحياة والماء والغذاء والكرامة. النساء يتحملن عبء جلب المياه من مسافات أطول، والأطفال يتركون مدارسهم، والمجتمعات تفقد هويتها.
في كندا، النزوح يعني فقدان العلاقة الروحية بالأرض عند السكان الأصليين، في الصومال، يعني ترك الأرض فقدان مورد العيش الوحيد، في سوريا والعراق، يهدد الجفاف بزيادة الهجرة إلى المدن الهشة أصلًا.
ما الذي يمكن فعله؟
يطالب خبراء المناخ والحقوقيون بإصلاح القوانين لتشمل النازحين بسبب تغيّر المناخ ضمن تعريف اللاجئ، كما يدعون إلى: تمويل أكبر لمشاريع التكيّف: مثل الزراعة المقاومة للجفاف وتحلية المياه، ودعم المجتمعات الأصلية والريفية مباشرةً، وتقوية البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، ودمج سياسات المناخ في خطط التنمية والحد من الفقر.
وفي صمت، يترك الجفاف وراءه قرى خاوية وحقولًا متشققة ووجوهًا غادرتها الابتسامة، النزوح بسبب المناخ هو وجه جديد لأزمة قديمة هي الصراع من أجل البقاء.