القاصرون المغاربة في قلب الأزمة.. سبتة تحت ضغط الهجرة ومدريد تبحث عن مخرج
القاصرون المغاربة في قلب الأزمة.. سبتة تحت ضغط الهجرة ومدريد تبحث عن مخرج
أعلنت سلطات مدينة سبتة الإسبانية حالة الطوارئ بعد أن تجاوز عدد القاصرين غير المرفوقين داخلها حاجز الخمسمائة، معظمهم من المغرب، هذه الموجة غير المسبوقة أرهقت قدرة مراكز الاستقبال التي لا تتسع إلا لعشرات فقط، بينما يجد الأطفال أنفسهم أمام واقع هش يفتقد إلى المأوى والخدمات الأساسية.
المشهد ليس محصورًا في سبتة وحدها، فجزر الكناري تواجه أزمة أكبر بعدما وصل عدد المهاجرين القاصرين غير النظاميين فيها إلى أكثر من خمسة آلاف، في وقت لا تتجاوز الطاقة الاستيعابية الإجمالية للمراكز هناك جزءًا بسيطًا من هذا الرقم، وهذا الضغط دفع الحكومة الإسبانية إلى إعلان حالة الطوارئ المتعلقة بالهجرة، في محاولة لمنع انهيار المنظومة الاجتماعية والخدماتية.
تخصيص ميزانيات عاجلة
في مواجهة هذا الوضع، لجأت مدريد إلى خطة لإعادة توزيع ما يقرب من أربعة آلاف قاصر على أقاليم إسبانية مختلفة، وفق معايير ديموغرافية واقتصادية، وتحملت الأقاليم الكبرى مثل الأندلس ومدريد وفالنسيا النصيب الأكبر من هذا التوزيع.
إلى جانب ذلك، خصصت الحكومة ميزانية طارئة تصل إلى مئة مليون يورو لتغطية تكاليف استقبال وإيواء المهاجرين في الأشهر الثلاثة الأولى، الهدف من هذه الإجراءات هو تخفيف العبء عن الثغور الإسبانية، وتقديم رعاية أولية عاجلة للقاصرين الذين يعيشون في ظروف غير إنسانية.
لكن رغم هذه الخطوات، يرى مراقبون أن الأزمة تتجاوز الحلول التقنية والمالية، إذ ترتبط بجذور أعمق تشمل الفقر، والبطالة، وانعدام الأفق لدى الشباب المغربي، وهي عوامل تدفعهم إلى ركوب البحر رغم المخاطر.
أبعاد إنسانية مأساوية
تقرير حديث لمنظمة العفو الدولية أشار إلى أن معظم مراكز الاستقبال في الكناري تعمل بأضعاف طاقتها الاستيعابية، حيث يعيش الأطفال في ظروف مكتظة، تفتقر إلى الرعاية الطبية الكافية، وتُسجَّل فيها حالات حرمان من التعليم والأنشطة اليومية.
الأزمة تفاقمت مع قرار قضائي في مايو 2025 بإغلاق أحد مراكز استقبال القاصرين في جزيرة غران كناريا، بعد توثيق مزاعم بالاعتداء وسوء المعاملة، الحادثة أثارت موجة من الانتقادات، ودفعت منظمات محلية ودولية للمطالبة بتحقيق مستقل وضمان حماية الأطفال من الانتهاكات.
في تقارير أخرى، رُصدت حالات حرمان القاصرين من التواصل مع أسرهم، إلى جانب ضعف الكوادر المؤهلة لرعاية الأطفال نفسيًا واجتماعيًا، هذه الممارسات تتناقض مع التزامات إسبانيا بموجب اتفاقية حقوق الطفل التي تفرض حماية خاصة للأطفال في أوضاع الهجرة.
موقف المنظمات الحقوقية والأممية
أمنستي إنترناشونال شددت على أن ما يجري في سبتة والكناري يشكل فشلًا واضحًا في احترام المعايير الدولية لحقوق الطفل. المنظمة طالبت مدريد بوضع آلية توزيع وطنية إلزامية، وضمان إشراف مستقل على مراكز الاستقبال.
المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين دعت من جهتها إلى ضرورة توفير بدائل إنسانية تضع مصلحة الأطفال في المقام الأول، مؤكدة أن القاصرين غير المرفوقين لا يجب التعامل معهم كأرقام أو أعباء، بل كضحايا يستحقون الحماية.
أما منظمة "كاميناندو فرونتيراس"، المتخصصة في رصد الهجرة على الحدود الإسبانية المغربية، فقد سلطت الضوء على الطريق الأطلسي المميت الذي يسلكه الكثير من هؤلاء الأطفال، ووثقت المنظمة حوادث غرق واختفاء تُظهر أن الهجرة لم تعد خيارًا بل محاولة يائسة للنجاة من ظروف معيشية قاسية.
أزمة تتجدد مع كل موجة
أزمات الهجرة بين المغرب وإسبانيا ليست جديدة، منذ منتصف التسعينيات، ومع تصاعد مراقبة الحدود الأوروبية، تحولت سبتة ومليلة إلى نقطتي عبور رئيسيتين للمهاجرين غير النظاميين. ومع كل أزمة اقتصادية أو سياسية في المنطقة، تعود هذه الثغور لتشهد موجات جديدة من محاولات العبور، وغالبًا ما يكون الأطفال والشباب في الواجهة.
في 2021، شهدت سبتة واحدة من أكبر موجات الدخول المفاجئ حين عبر نحو ثمانية آلاف مهاجر خلال يومين فقط، بينهم أكثر من ألف قاصر. هذه الحوادث شكلت ضغطًا على العلاقات المغربية الإسبانية، ودعت بروكسل حينها إلى التدخل لحماية الحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي.
الأزمة الحالية تعكس أبعادًا دبلوماسية معقدة. مدريد بحاجة إلى تعاون الرباط في ضبط تدفق القاصرين وحماية حقوقهم قبل وصولهم إلى الحدود، في المقابل، ترى منظمات مغربية أن المسؤولية مشتركة، وأن إسبانيا لا يمكنها التنصل من التزاماتها تجاه الأطفال الذين وجدوا أنفسهم داخل أراضيها.
الاتحاد الأوروبي يراقب الوضع عن كثب، إذ يعتبر سبتة ومليلة جزءًا من حدوده الخارجية، وحذرت بروكسل من أن استمرار الضغط دون حلول إنسانية قد يؤدي إلى أزمات سياسية أكبر، وربما يفتح المجال أمام صعود خطابات معادية للهجرة في الداخل الإسباني.
نحو استراتيجية مستدامة
من خلال تحليل المشهد، يبرز أن الحل يتطلب أكثر من إجراءات طارئة. المطلوب هو: وضع آلية دائمة لإعادة توزيع القاصرين بشكل عادل بين الأقاليم الإسبانية وتحسين مراكز الاستقبال وتدريب العاملين فيها لتغطية الاحتياجات التعليمية والنفسية للأطفال، وتعزيز التعاون الثنائي بين المغرب وإسبانيا لمعالجة الأسباب الجذرية للهجرة، وعلى رأسها الفقر والبطالة، إضافة إلى إشراك المنظمات الأممية والحقوقية في الرقابة لضمان التزام المعايير الدولية.
وراء الأرقام والقرارات السياسية، تبقى الصورة الأكثر وضوحًا: أطفال مغاربة وغيرهم من دول أخرى، يعبرون البحر بلا مرافق، يحملون أحلامًا بسيطة بالمدرسة والأمان، ليجدوا أنفسهم في مراكز مكتظة، بلا يقين حول مستقبلهم.
الأزمة تكشف حدود البنى الاجتماعية والسياسية، لكنها تكشف أيضًا مسؤولية جماعية، محلية ودولية، لحماية هؤلاء القاصرين، فالهجرة ليست خيارًا فرديًا، بل نتيجة لظروف أكبر، وغياب الحلول المستدامة سيجعل من البحر المتوسط مقبرة مفتوحة لأحلام الصغار.