بين حق التجمع وتجريم الكراهية.. كيف تتعامل أستراليا مع احتجاجات مناهضة للهجرة؟
بين حق التجمع وتجريم الكراهية.. كيف تتعامل أستراليا مع احتجاجات مناهضة للهجرة؟
تتسع في مدن أسترالية عدة تظاهرات مناهضة للهجرة شارك فيها آلاف المحتجين، في مشهد يختبر قدرة البلاد على صيانة السلم الأهلي في ظل انقسام حاد حول سياسات الهجرة واللجوء.
من جانبها، وصفت السلطات بعض التجمعات بأنها ذات صلة بتيارات يمينية متطرفة، في حين نظمت حشود أخرى مسيرات مضادة دعماً للاجئين والمهاجرين، وفي سيدني وملبورن تزامنت الفعاليات مع أحداث جماهيرية رياضية.
وتركزت رسائل الداعين للتظاهر على المطالبة بوقف ما يصفونه بالهجرة الجماعية، وندّدت الحكومة بما عدّته محاولات لنشر الكراهية وتقويض تماسك المجتمع، وقد شارك في سيدني وحدها عدة آلاف، وفق تقديرات إعلامية محلية، وسط وجودٍ أمني واعتقالات محدودة في بعض المواقع، وفق شبكة "ABC".
أسباب التصاعد
يعزو مراقبون توسع رقعة الاحتجاجات إلى تداخل ثلاثة عوامل رئيسية: الأول اقتصادي اجتماعي يتمثل في ضغوط تكاليف المعيشة وأزمة الإسكان وازدحام الخدمات العامة في أستراليا والتي غالباً ما تُحمّل الهجرة جانباً من تبعاتها في الخطاب العام، رغم أن الحكومة نفسها أقرت بتأثير موجات الهجرة المرتفعة في 2022 و2023 وتبنت في 2024 مساراً لتشديد منح التأشيرات وتقليص صافي الهجرة خلال 2024 و2025، الثاني سياسي يتعلق بتنظيم مجموعات يمينية متطرفة عبر الشبكات الاجتماعية واستثمارها لخطاب الاستقطاب، والثالث أمني تشريعي يرتبط بالجلبة القانونية والإعلامية حول تجريم رموز النازية وخطابات الكراهية، وما أثاره ذلك من سجال حول حدود حرية التعبير.
تصف تقارير إعلامية مشاهد حشود كبيرة في قلب ملبورن وسيدني، بعضها رفعت شعارات تطالب بوقف الهجرة، وأخرى مضادة تدعو إلى مناهضة العنصرية والترحيب باللاجئين، وانتقدت الحكومة الفيدرالية الحراك المناهض للهجرة بوصفه يسعى لنشر الكراهية، مع الإشارة إلى صلات مزعومة لبعض منظميه بجماعات نازية جديدة، في حين أكدت شرطة الولايات متابعة أي مخالفات تتعلق بالتحريض أو العنف أو الرموز النازية.
سياسات الحكومة وحدود القانون
على المستوى التشريعي أقرّت كانبرا عام 2024 حظراً اتحادياً على أداء التحية النازية واستخدام رموزها والإتجار بها، مع عقوبات قد تصل إلى السجن، واتخذ هذا القانون زخماً على خلفية حوادث متفرقة وتصاعد القلق من أنشطة جماعات متطرفة، وتبنّت عدة ولايات تشريعات مكملة تحظر الرموز أو الإيماءات النازية، وبالتوازي، شددت الحكومة في 2024 و2025 إجراءات الهجرة والدراسة والعمالة المؤقتة في إطار استراتيجية تقليص الأعداد، ما انعكس في مراجعة قواعد التأشيرات وتوقعات بخفض صافي الهجرة بعد بلوغ مستويات قياسية في 2022 و2023.
وتشير البيانات الرسمية إلى أن أستراليا من أكثر المجتمعات تنوعاً في العالم المتقدم. نحو ثلاثة من كل عشرة من السكان وُلدوا خارج البلاد، في حين أن نصف السكان تقريباً لديهم والد واحد على الأقل وُلد في الخارج، وتؤكد بيانات السكان الوطنية أن موجتي 2022 و2023 شهدتا ارتفاعاً استثنائياً في صافي الهجرة قبل أن تضع الحكومة مساراً للخفض النسبي في 2024 و2025، كما توضح معطيات المفوضية الأسترالية لحقوق الإنسان أن غالبية طالبي اللجوء يصلون جواً لا بحراً، خلافاً لصورة راسخة في الجدل العام.
المفوضية الأسترالية لحقوق الإنسان ذكّرت بأن خطاب الكراهية والتمييز مرفوضان قانوناً وأخلاقاً، وأن الحق في التجمع السلمي لا يبرر التحريض أو الترهيب، داعيةً إلى تطبيق القوانين بلا انتقائية، وإلى خطاب عام يحافظ على كرامة جميع الفئات. ومن جهته، شدد المركز الأسترالي للقانون والحقوق على ضرورة أن تقترن مكافحة الرموز النازية بسياسات شاملة لمناهضة العنصرية، وبموازنة دقيقة بين حرية التعبير وتجريم التحريض، في حين رأت مؤسسات بحثية أن الحظر يبعث إشارة واضحة ضد التطرف لكنه لا يغني عن المعالجة الاجتماعية والثقافية.
رؤية المنظمات الدولية والأممية
تؤكد لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة أن الحق في التجمع السلمي مكفول، لكن لا تشمل حمايته أعمال العنف، وعلى الدول تسهيل الاحتجاجات السلمية وحمايتها، في المقابل، يفرض العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية حظراً صريحاً على أي دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضاً على التمييز أو العداء أو العنف، وتستعين الأمم المتحدة باختبار الرباط لتحديد عتبة التحريض، وتحث المفوضية السامية لشؤون اللاجئين على مواجهة خطاب الكراهية بخطاب دقيق قائم على الأدلة، وتذكّر بمسؤوليات الدول تجاه طالبي اللجوء وفق القانون الدولي، وهذه المبادئ تشكل إطاراً مرجعياً لقرارات الشرطة والمحاكم عند التمييز بين التعبير السياسي المشروع والتحريض المجرّم.
النبرة الحادة في بعض الشعارات والخطابات تهدد بإضعاف جهود الاندماج التي تراكمت لعقود، خصوصاً في مدن كبرى تعتمد على إسهامات الوافدين في سوق العمل والجامعة والقطاع الصحي، وحذرت تقارير إعلامية وأكاديمية من أن الاستقطاب حول الهجرة يتيح للتيارات المتطرفة مساحة أوسع للتجنيد، ويغذي تفاعلات عدائية على الإنترنت قد تترجم إلى حوادث كراهية على الأرض، وترى جهات حقوقية أن الاستجابة الفعالة تمر عبر تعزيز محو الأمية الإعلامية، ودعم مبادرات المجتمع المدني، وتطمين الفئات المستهدفة بأن القانون يحميها، إلى جانب الشفافية الحكومية في إدارة أعداد الوافدين وتوزيعهم مكانياً لتخفيف الضغط على الإسكان والخدمات.
تاريخ الجدل حول الهجرة في أستراليا طويل ومتقلب، فمنذ تفكيك سياسة أستراليا البيضاء في سبعينيات القرن الماضي، اتجهت البلاد تدريجياً إلى تبني نموذج تعددي يستند إلى اختيار المهاجرين على أساس المهارات، مع قبول لاجئين عبر برامج إنسانية، غير أن لحظات التوتر تكررت، من أحداث كرونولا عام 2005، مروراً بموجات احتجاج مناهضة للإسلام في 2015، وصولاً إلى السجال المتكرر حول احتجاز طالبي اللجوء القادمين بحراً في منشآت خارجية، وهذه المحطات تشكل ذاكرة جمعية تستدعى كلما تصاعد الجدل حول الهوية والأمن والحدود.
الموازنة بين الحقوق والأمن
المعادلة التي تواجهها السلطات اليوم تجمع بين ثلاثة التزامات متزامنة: أولها حماية الحق في التجمع السلمي وإتاحة المجال للتعبير عن الرأي ما دام خالياً من العنف، وثانيها تنفيذ القوانين التي تحظر التحريض وخطاب الكراهية والرموز النازية بلا تهاون، وثالثها معالجة الأسباب البنيوية التي تغذي القلق الشعبي وعلى رأسها الإسكان والضغط على البنية التحتية عبر سياسات شفافة لوتيرة الهجرة وتوزيعها وبرامج اندماج أكثر فاعلية، ونجاح هذا التوازن سيحدد إن كانت موجة الاحتجاجات الحالية ستبدد ضمن التداول الديمقراطي العادي أم ستتحول إلى محطة فاصلة تعيد رسم حدود النقاش حول الهجرة في واحدة من أكثر دول العالم انفتاحاً وتنوعاً.
يذكر أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه أستراليا يكفل حق التجمع السلمي وفق المادة الحادية والعشرين، ويمنع الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضاً. وعلى المستوى الوطني، حظرت أستراليا في 2024 التحية والرموز النازية على المستوى الاتحادي مع تشريعات مماثلة في عدد من الولايات، في حين أعلنت الحكومة خططاً لتقليص صافي الهجرة بعد ارتفاع استثنائي في 2022 و2023.
وتُظهر البيانات الرسمية أن نحو ثلث السكان وُلدوا خارج البلاد ونحو نصفهم لديهم والد واحد على الأقل مولود في الخارج، وتشير المفوضية الأسترالية لحقوق الإنسان إلى أن معظم طالبي اللجوء يصلون جواً، وتؤكد منظمات حقوقية وأممية ضرورة مواجهة خطاب الكراهية بسياسات قائمة على الأدلة وتعزيز الحماية للفئات المستهدفة من دون المساس بحقوق التجمع السلمي.