الفجوة بين الشمال والجنوب.. تقرير أممي يحذّر من تهديد متصاعد للديمقراطية عالمياً
الفجوة بين الشمال والجنوب.. تقرير أممي يحذّر من تهديد متصاعد للديمقراطية عالمياً
عقد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة دورته الـ60 في جنيف، والتي تتواصل فعالياتها حتى 8 أكتوبر 2025، وفي هذا السياق، قدّم الخبير المستقل المعني بإقامة نظام دولي ديمقراطي ومنصف تقريره السنوي، الذي تناول بعمق اتساع الفجوة بين الشمال والجنوب العالميين، والتحديات المتفاقمة التي تهدد النظام الدولي القائم على مبادئ العدالة والمساواة.
التقرير، الذي اطلع «جسور بوست» على نسخة منه، رسم صورة قاتمة لواقع العلاقات الدولية الراهنة، مسلطًا الضوء على الاختلالات البنيوية التي تعمق من التفاوت في التنمية وتوزيع الموارد والتأثير السياسي.
وأكد الخبير أن استمرار هذه الفجوة لا يضعف فقط قدرة الأمم المتحدة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، بل يهدد بشكل مباشر فرص إقامة نظام عالمي ديمقراطي يتسم بالإنصاف والشمولية.
تراكم أزمات يعمق الفوارق
أوضح التقرير أن السنوات الأخيرة شهدت تراكم أزمات متداخلة تركت بصماتها على النظام الدولي، بدءًا من جائحة «كوفيد-19»، مرورًا بأزمات الديون، وصولًا إلى النزاعات المسلحة وتداعيات تغير المناخ.
هذه الأزمات، بحسب الخبير المستقل، كشفت هشاشة البنى الاقتصادية والمالية في بلدان الجنوب، وأكدت الحاجة الملحة لإصلاحات جوهرية في المنظومة الاقتصادية العالمية.
وأشار إلى أن أكثر من 60 دولة في الجنوب العالمي تواجه اليوم أزمات ديون خانقة، بينما تضطر حكوماتها لتوجيه مواردها المحدودة نحو سداد الفوائد بدلًا من تمويل الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم. في المقابل، تستمر الدول المتقدمة في تحقيق فوائض اقتصادية مستندة إلى أنظمة مالية وتجارية غير متكافئة.
وأبرز التقرير أن التفاوت لا يقتصر على المجال الاقتصادي فحسب، بل يمتد إلى موازين القوة داخل المؤسسات الدولية.
وأشار الخبير إلى أن الهياكل الحالية لمجلس الأمن وصندوق النقد والبنك الدوليين لا تزال تعكس موازين قوى تعود إلى منتصف القرن الماضي، ما يعوق مشاركة الدول النامية في صياغة القرارات المؤثرة على مستقبلها.
وحذّر من أن هذا التهميش المؤسسي يكرس شعورًا متناميًا بانعدام العدالة، ويغذي النزاعات وعدم الاستقرار السياسي، ويقوض الشرعية التي تستند إليها المنظومة الدولية.
تأثير مباشر على حقوق الإنسان
وأكد الخبير أن غياب التوازن في النظام الدولي يترجم بشكل مباشر إلى انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان. فالفقر المدقع، وتدهور الخدمات العامة، واتساع فجوات التعليم والصحة، كلها مظاهر لحرمان ملايين الأشخاص في الجنوب من حقوق أساسية تضمنها المواثيق الدولية.
وسلط التقرير الضوء على أن النساء والفتيات والأقليات غالبًا ما يدفعن الثمن الأكبر لهذه الأزمات، حيث تتعرض حقوقهن للتقويض المستمر في ظل غياب شبكات الحماية الاجتماعية وضعف المؤسسات الوطنية.
وتوقف التقرير مطولًا عند أزمة المناخ باعتبارها نموذجًا صارخًا لاختلال التوازن بين الشمال والجنوب. إذ تتحمل الدول النامية العبء الأكبر من الكوارث المناخية -من فيضانات وجفاف وعواصف مدمرة- رغم أنها الأقل إسهامًا في انبعاثات الكربون.
وأشار الخبير إلى أن تمويل العمل المناخي لا يزال بعيدًا عن الوفاء بالوعود الدولية، حيث لم تصل المساعدات الموعودة إلى مستوياتها المستهدفة، ما يضعف قدرة بلدان الجنوب على التكيّف والتخفيف من آثار التغير المناخي.
التكنولوجيا والفجوة الرقمية
أحد المحاور البارزة التي تناولها التقرير هو الفجوة الرقمية المتزايدة. ففي حين تشهد دول الشمال تقدمًا سريعًا في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، تعاني دول الجنوب من ضعف البنية التحتية الرقمية وغياب الاستثمار الكافي.
وحذّر الخبير من أن هذا التباين لا يقتصر على فرص التنمية الاقتصادية فحسب، بل يؤثر أيضًا على الحقوق الأساسية، مثل الحق في التعليم والوصول إلى المعلومات والمشاركة في الحياة العامة.
الفقر وعدم المساواة
وتضمن التقرير جملة من الأرقام التي تكشف حجم المأساة، فقد أشار إلى أن نحو 1.2 مليار إنسان يعيشون تحت خط الفقر المتعدد الأبعاد، معظمهم في بلدان الجنوب، في حين تتركز الثروات العالمية بشكل غير مسبوق في أيدي نسبة ضئيلة من سكان الشمال.
ولفت إلى أن فجوة الدخل بين أغنى 10% وأفقر 10% من سكان العالم اتسعت خلال العقد الأخير، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة على الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
وأبرز التقرير أن تجاوز هذه التحديات يتطلب إرادة سياسية جادة لإصلاح النظام الدولي على أسس أكثر ديمقراطية. وشدد الخبير على أن إقامة نظام منصف يستلزم إعادة هيكلة المؤسسات المالية والتجارية العالمية، وضمان تمثيل أوسع للدول النامية في عمليات صنع القرار الدولي.
ودعا إلى وضع آليات فعالة لضمان نقل التكنولوجيا والمعرفة إلى الجنوب، بما يعزز من قدرته على النهوض بموارده البشرية والطبيعية، ويسهم في تقليص الفجوة التنموية.
توصيات بمواجهة التفاوت
في ختام تقريره، وجّه الخبير المستقل مجموعة من الرسائل الواضحة إلى المجتمع الدولي، فأكد أن تحقيق العدالة العالمية لا يمكن أن يتم عبر إجراءات تجميلية، بل من خلال إصلاحات بنيوية تعالج جذور التفاوت.
ودعا الدول الأعضاء إلى دعم إصلاح مجلس الأمن والمؤسسات المالية الدولية بما يضمن مشاركة عادلة للجميع، وتعزيز آليات التعاون الدولي في مجالات المناخ والتكنولوجيا والتنمية المستدامة، كما شدد على أهمية الالتزام بزيادة التمويل الموجه إلى الجنوب، سواء في مجال مواجهة التغير المناخي أو في دعم النظم الصحية والتعليمية.
وأشار إلى أن إقامة نظام دولي ديمقراطي ومنصف يتطلب أيضًا احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان على مستوى عالمي، وضمان أن تكون القرارات الدولية نابعة من شراكة حقيقية تعكس مصالح جميع الشعوب، لا أن تبقى رهينة لمصالح القوى الكبرى فقط.